اخبار المغرب

“وقائع مغربية بعيون سوسيولوجية”.. من شرفة العين إلى أشكال التدين الجديدة

صدر بحر هذا الأسبوع كتاب “وقائع مغربية بعيون سوسيولوجية” للمترجم والسوسيولوجي المغربي عبد الله زارو عن “مؤسسة آفاق للاتصال والدراسات والنشر” بمراكش، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل.

يمثل هذا الكتاب عصارةً لجملة من الدراسات والأبحاث التي قام المؤلف بإنجازها في مناسبات متنوعة، امتدت لما يناهز عشرين سنة، ويقع في ما يناهز 400 صفحة، ويضم ثلاثة أبواب وأحد عشر فصلا، إضافة إلى تقديم.

خصّ المؤلّف الباب الأول لظواهر مغربية من صميم الواقع، أولى هذه الظواهر إشكالية العلمنة الاجتماعية الممارسة عمليا من قبل “الشعب” الذي يتديّن بالبراغماتية، حيث اقتضى أمر استخلاص هذه الخلاصة من طرف المؤلف الدخول في مسام الجسم الاجتماعي عبر الملاحظة الدقيقة والمتواترة لليومي، والذهاب والإياب بين الماكرو والميكرو.

الظاهرة الثانية هي أشكال التضامن بين النسوة في الأحياء الشعبية، حيث تبادل الخيرات، من الملح وبعض الخضار إلى أنماط المعايير والمقاييس التراتبية، أي من أشدها مادية إلى أكثرها رمزية. لينقل القارئ عبر ظاهرة ثالثة إلى ارتياد المقاهي وما إن كانت مجرد عادة أم ملاذ. حيث طبّع المغربي مع المقاهي بسرعة مقارنة مع باقي المؤسسات وأنماط الاستهلاك، وشيّد حولها شبكة اجتماعية من المعارف يتبادلون الدردشات حول كل شيء ولا شيء.

الظاهرة الرابعة التي توقف عندها المؤلف وضع لها عنوان: “من شرفة العين”، ليفسر مسألة تزايد إقبال المغاربة على الاستشارة النفسية ودلالات ذلك، حيث يعيش المغربي تمزقا بين طبعه الاجتماعي وعدوانيته الاجتماعية، مفارقة صاغها على شكل سؤال: “هل يحب الجماعة أو يكره العزلة؟”. كما سلط الضوء على الدردشات التلفزيونية والنقاشات العمومية حول تعدد الزوجات والزواج، وصولا إلى إطلاق العنان للسان بين أهل السياسة.

إن تسليط الضوء على هذه الظواهر والوقوف عندها مليا، بمقاربة محايثة تزهد في إصدار الأحكام، وتقدّر الأشياء حق قدرها، لتصفها كما هي وليس كما ينبغي لها أن تكون من وجهة النظر هذه أو تلك، هو التحدي الذي خاضه المؤلف بمعنويات رواقية، قوامها الرفق بالمعطى الاجتماعي دون إخضاعه لعنف المفاهيم.

ويبرز المؤلف أهمية وقيمة اليومي علميا، حيث الأنس والمؤانسة وما يعتبره البعض “تافها” و”سطحيا”، عملا بمقولة نيتشه “أعمق شيء في الشيء سطحه”. أي إن وصف اليومي، الذي لم يستنفد بعد ممكناته، كفيل بإنارة أفهامنا حول طبيعة الاجتماعي.

أما الباب الثاني، فقد خصّه المؤلف لأوجه النزعة الإسلامية، متسائلا: ما الذي يجعل من الإسلامي إسلاميا؟ أو بصيغة أخرى كيف أصبح إسلاميا؟ هكذا انطلق من المخيال أو المتخيّل الأيديولوجي الذي يدفع المرء للانتماء إلى هذه الحركة، مارا بالاستعانة بفضاء المسجد وطقسنة ممارساته، لا من حيث ابتداع أشكال ورموز جديدة فقط وإنما أيضا عبر إصباغ خطبة الجمعة بصبغات جديدة. ولم يفته الوقوف عند رحلة المرأة من الأضرحة إلى المساجد، وتغيير أنماط القراءة القرآنية من القراءة الجماعية إلى القراءة الفردية، وأيضا نقل الجذبة الجسدية إلى الجذبة الصوتية عبر الاستعانة بالأشرطة الصوتية وتوزيعها اللافت للنظر. وعبر هذه الرحلة، يصل المؤلف بالقارئ إلى المعتقدات الشبابية الجديدة، ومسارات المراهقة والحالات الروحية والوجدانية للشباب المغربي المعاصر.

يتبين أن المؤلف قد عمل على استكناه أشكال التدين الجديدة المحركة للشباب المغربي، وتحديدا حالة الحركة الإسلامية، دون أن يعمل على إصدار الأحكام القيمية بشأن هذه المسألة. وخلص إلى أن للعامل الاقتصادي أهميته؛ “فمنصب مالي زائد يساوي إسلاميا ناقصا”، أي إن الفقر يفعل فعلته بهؤلاء، ولكن استدرك بأنه لا يمكن الاعتماد على العامل الاقتصادي وحده، وإنما يتداخل ما هو ثقافي ورمزي كذلك، من بينه الحاجة إلى الاعتراف والرغبة في المغايرة، والتربية القائمة على الحشو بالإقصاء وليس بتقبل الاختلاف، وغيرها.

وفي الباب الثالث، ينتقل المؤلف إلى أنثروبولوجيا الانتخابات والاحتجاج، إذ قام بتشخيص المشهد الانتخابي واستراتيجيات الساكنة الخارجة عن الإطار المفاهيمي السائد الذي ينعتها بنعوت قدحية لمشاركتها في الانتخابات. فالأنسية والاحتفالية واللقيا الجماعية دوافع تدفع الناس إلى الدفع باقتدار “الشعب” للتعبير عن استمراره في الحياة. كما حاول المؤلف كشف القناع أنثروبولوجياً، بما هو حاول لتعدد التأويلات، من القناع المقاوم إلى المتحوّل والمحرر. وهي كلها ظواهر تكشف أوجه السياسي وتجلياته.

عبر أبواب وفصول الكتاب، نخلص إلى أن المؤلف ينتقل بنا من أشكال ملموسة لليومي والمبتذل، عبر ظواهر شتى، إلى الأشكال المجردة للسياسي والثقافي، ليبرز أن تفاصيل إشكالية الاجتماعي توجد في هذه الأبعاد التي درج الفكر الوضعي على رميها في خانة “اللاعقلاني” وقلل من شأنها، بالرغم من أنها البانية للاجتماعي والمحددة له. وأهمية الكتاب لا تكمن فقط في المواضيع التي أثارها، وإنما أيضا في المقاربة التي اعتمدها، حيث التؤدة والتأني وعدم التسرع، بل وطول النفس في التحليل، والزهد في إصدار الأحكام.

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن هذا الكتاب عمل أصيل ومبدع، ولا شك أن قيمته العلمية والأكاديمية تسمح بالتأكيد على أهميته للمكتبة المغربية وللشأن الأكاديمي والثقافي المغربي.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *