اخبار المغرب

عندما هوَتْ “نجوم الغرب” وانطفأت الفرقة الموسيقية “المْصابَح” إلى الأبد

مثلَ أي تاريخٍ، هناك دائما علامات استثنائية فارِقة تَرْقَى لتكون عنوانَ كُلِّ مرحلة. في هذا المقام يَقُودُنا الحديثُ إلى الفرقة الموسيقية “المْصَابَح”، أو بصيغةٍ أخرى “نجوم الغرب”. إن تلك الموسيقى والأغاني كانت ولا تزال قادرة على النفاذ إلى أعماق مختلف الفئات والشرائح المُجتمعية في مختلف الأمكِنة، ولا أَدَلَّ على ذلك من الشُّعلة والوَهَج الذي اكتسَبَه أعضاءُ الفرقة الموسيقية آنذاك بين الناس، فكانوا بحقٍّ نُجومَ المرحلة.

أمْشَـاجُ البدايـة

بداية السبعينات، وفي حي أولاد حمّاد كان شخصٌ يُدعى أحمد البِّيْتي يسعى لحِفظ وتقليد أغاني المجموعات الرائدة رفقةَ صديقِه مصطفى زيْزُون. وفي الحي المُجاور، اعزيب الشرقاوي، كان شخصٌ يُدعى إدريس خاطرُو يَخوضُ المُحاوَلة نفسها إلى جوار صديقِه حسن الهُرْش، الشهير بلقب البُوعيادي، ومعهُما الصديق الثالث ازْوِينِينَة بناصر. ما بين العُدْوَتَيْنِ: حي أولاد حمّاد، أول تجمُّع سكاني بسوق الأربعاء، واعزيب الشرقاوي، الحي الشعبي العامر بالأحداث والحكايات على الطريق الوطني والدولي آنذاك، كان المُنتجَعُ الأخضرُ الدعادع هو المُلتقى والشاهد على لقاء عناصر المجموعة الغنائية التي حملتْ اسم “المصابح” ثم لاحقا “نجوم الغرب”.

في ذلك الفضاء الخَصِيب وبين أَفْيَائِه جَمعت الحياةُ تلك العناصر التي انصهَرتْ إيقاعاتُها، وتَواشَجَتْ أصواتُها ما بين المُستوى الرخيم، والجَهْوَري، والمتوسط، أما المايسترو فَلَمْ يكن سوى ذلك الطفل المُتحدر من “أولاد بوعياد” نواحي ثلاثاء الغرب، فقد كبُرت فيه المدينة نَغَمًا نَغَمًا وهو يَحبُو بين بَراريك الفَنْدق، ذلك المكان المُعَتَّق بالمَروِيات والمَحكِيات، المُدَبّج بالأسرار الساحرة، حيث كانت تَحُجُّ إليه الشخوصُ وقوافلُ الناس من كل القبائل حتى تلقى سوقَ الأربعاء المَهيب: حَكّاؤون، عَطّارون، مُوسيقيون، مُستعرِضُون، دَجَّالون، مَدّاحُون، عَشّابون، فُكاهيون… هكذا تَشكّل الحِسُّ الفني لدى الطفل حسن البوعيادي، ليَحترِف العزفَ على آلات: “الوْتار”، “الكمان”، “العود”، “القيثارة”، “الناي”، “الغيطة”، “لارمونيك”، “الموندلين”.

المِـرانُ والتـداريب

منذ أواخر السبعينات ومَطلع الثمانينات عَكَفَتْ مجموعةُ “المصابح” على تداريبها الفنّية في بيوتِ أعضائِها، خاصة في ضيافة حسن وإدريس. كان أحمد، إدريس، ومصطفى على البندير، بناصر على الإيقاع عبر “الطبيلة” و”البُونْكُوصْ” مع إمكانية التبادُل، بينما في العزف على “الموندولين”/”البوزق”/”السنتير” كان الماهرُ حسن. بعدها ظهرت المجموعةُ إلى العَلن في المُناسَبات العائلية والاجتماعية الخاصة، وبدأت تَصْدَحُ من السُّطوح وسُرَادِقات الاحتفال موسيقى لها وَقْعُ السحر في النفوس، كانت أنوارُها مُتَلألِئة قادِمةً من مصابيح شبابية ملأت الدُنيا وشغلت القاصي والداني بأغاني ظاهرة الجيل في أداءٍ باهرٍ وعَزْفٍ مُذهل، كان يُضاهي ما تُقَدِّمُه المجموعات الرائدة في هذا النمط الفني الذي هيمَن على الذائقة الموسيقية خلال تلك الفترة.

المجـد والاحتـراف

تُعتبر الثمانيات مرحلةَ الأَوج والازدهار بالنسبة لهؤلاء الشباب المُغامِرين، وقد تخلّقت مجموعةُ “نجوم الغرب” من أمشاج مجموعة “المصابح”، بحيث مالت “نجومُ الغرب” إلى النمَط الموسيقى الشعبي التُّراثي على غرار مجموعة “تكادة” و”مسناوة”، فأنتجت أولَ شريط غنائي سنة 1981 بمدينة الدار البيضاء، شاركت فيه بعضُ عناصر مجموعة “المصابح”، ثم الشريط الثاني سنة 1982، والشريط الثالث سنة 1984 بمدينة فاس، ثم الشريطُ الرابع سنة 1986 بمدينة مكناس الذي سَجّل فيه العازف حسن البوعيادي باسم “نجوم الغرب” للمرة الأولى. ذاعت في الآفاق قِطَعٌ موسيقية ردَّدَها الوجدان الشعبي مثل: “ناري ميمتي على لسمر ولسْمَر”، “المولُوعة”، “الوليد الوليد”، “حرمو”، “قولها عيشي”، “ساكن كناوي”، “لا تبكيش يا الميمة”…

لم يكن يخطُر ببالِ أولئك الشباب أن هذه الأغاني والأشرِطة ستَنطلق رفقةَ أبناء الوطن المُهاجرين إلى الديار الأوروبية مع بدايةِ هجرة الشباب كظاهرةٍ اجتماعية مُنتصَفَ الثمانينات، خصوصا وأن سوق الأربعاء كانت خَطاًّ دوليا لمَوَاكب الرحلات والمُسافرين.

في سنة 1984 شاركت المجموعةُ في أول سهرة عمومية بمناسبة ليالي رمضان في منصةٍ أُقِيمَتْ حيثُ توجد الآن الخزانةُ البلدية. ومنذ ذلك الحين ذاعت المجموعة في الآفاق، وأحيَت العشرات من السهرات والاحتفالات الوطنية والصيفية والمُناسَبات الاجتماعية بمُدن العرائش، شفشاون، القصر الكبير، مولاي بوسلهام، وزان، القنيطرة، الدار البيضاء. كان هؤلاء الشبابُ حجرَ الأساس في كلِّ مُناسبة أو احتفالية بالمدينة، في الساحات العامة، وفي القاعات، مثل ثانوية سيدي عيسى، سينما النهضة، النادي الثقافي النسوي… وقد التفَّت حولَهم شخصيات كبيرة، وسعى إلى وُدِّهم أطُرٌ من مختلف المناصب والمَراتب المدنية وغيرها، وفي ذلك حكايات ومَرويات كثيرة. أمام المَدِّ الفنّي الهائل لهذه المجموعة الموسيقية، سعى الراحل أحمد بوغفور/اليزيدي، رئيس المجلس الجماعي آنذاك، لاحتضان هذا الرمز الثقافي الغرباوي، بحيث وَفَّر لهُم مَقَرًّا للتداريب والتجمُّع، لكن سُرعان ما ضاع ذلك المكان الحاضن. ومِمّن احتضنوا هذه الفرقةَ الفَنّية في بعض الفترات نجد الأستاذ المُقتدر عبد السلام الستي، عبد المجيد بوغفور/اليزيدي، عزيز بدوي، حسن الحسيني.

في هذا الأَوْجِ الفنّي حَظِيَتِ الفرقةُ بفُرصةِ الاستضافة في البرنامج الإذاعي الوطني “أضواء المدينة” إلى جانب خيرةِ الفنانين والفُكاهِيِّين المغاربة في حلقةٍ مُشترَكة. كما التقَت المجموعةُ برُواد أغنية الجيل في أكثر من فُرصة، من أمثال العربي باطما، عبد الرحمان باكو، محمد الدرهم، محمد السوسدي الذي كان يزور المجموعة في حي اعزيب الشرقاوي والدعادع، ثم مولاي الشريف المراني في جلسةٍ موسيقية بفُندق “الغرب”. كانت النصيحةُ الجماعية لهؤلاء الشباب: اخرُجوا من هذه المدينة الصغيرة نحو الآفاق الأرحَب والأرحَم.

الانحـدار إلـى الهاويـة

مع غيابِ فضاءاتٍ ومَرافق عمومية مثل دار الشباب، المعهد الموسيقي، دار الثقافة، أي في ظلِّ انعدام البيئة الحاضِنة، ونظرا لغياب التأطير، وافتقاد المدينة إلى نُخبةٍ محلية قارّة، وغيابِ إطارات مدنية ونقابية وحزبية مُستدامة، ضاعت الكثيرُ من الإمكانات والطاقات المحلية، في طليعَتِها هذه المجموعةُ الموسيقية التي كان ينقُصُها الكثيرُ من المؤهّلات الذاتية كذلك، بحيث كانت تُراهن على الروح البوهيمية والموهبة الفطرية في غيابٍ تام للتأطير والوعي بالموهبة والتنظيم. وعلى قَدْرِ المجد كان السُّقوط، كأنهم خَرَجُوا من حُلمٍ مَشْدُوهِينَ أمام فداحة الواقع. انطفأ المصباحُ الأساسُ وانهار حَجَرُ الزاوية بموت حسن البوعيادي سنة 1998 في حالةٍ يُرْثَى لها بعد أن صار مَنْذُورًا لشوارع النسيان في المدينة المُنهكة، وانْزَوى أصدقاؤه القُدامى مثل أشباحٍ تَجُوب المدينةَ نَكِرَةً كأنها لم تكُن يوما مصابيح تُنير المدينة، وكأنها لم تكن يوما نجوما تُرَصِّعُ وجدانَ الغرب.

في سنة 2005 حاول نادي “الشموع الحُمر” تنظيمَ حفل تكريمٍ مُتأخرٍ لأعضاء المجموعة، الذين تَجمّعوا لأول مرة منذ آخر حفل لهم سنة 1995.

وبعدها سَعَتْ جمعيةُ زفزاف للتنمية والثقافة والإبداع إلى اجتراح هذه المُحاولة العسيرة، فجمعتْ أعضاءَ الفرقة في سهرةٍ نوستالجية بمناسبة حفل ذاكرة المدينة بدار الشباب سنة 2010. وكانت سنةُ 2017 المُناسبَةَ الأخيرة التي ظهر فيها بعضُ أعضاءِ المجموعة في التفاتَةٍ تكريمية من طرف اتحاد جمعيات المجتمع المدني بمناسبة مهرجان المدينة. كان ولا يزال من المُمكن استيعابُ مَن تبقّى مِن عناصر هذه المجموعة وصَون كرامَتِهم عبر أكثر من صيغةٍ بإرادةٍ من القائمين على الشأن المحلي والفاعلين المدنيين، والحفاظُ على بعضِ ما تبقّى لهُم من مجدٍ ضائع، وترميم تَصَدُّعات الذاكرة المحلية.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *