اخر الاخبار

لا خير في الأمة ما لم ترجع إلى كتاب الله حقّا وصدقا

 إن هذه الأمة الإسلامية إنما هي أمة كتاب، بل هي الأمة الوحيدة بين الأمم التي نشأت بكتاب، نزوله كان بدءا لوجودها وخلوده هو روح وجودها وخلودها، لا جرم أن مسار تاريخها ارتفاعا وانخفاضا، عزّا وذلّا، نصرا وانهزاما، ارتبط ارتباطا وثيقا بحال علاقة هذه الأمة بهذا الكتاب المعجز الخالد، فعلاقة الأمة بالكتاب الكريم هي الميزان الذي توزن به وهي المؤشر الذي يوضح حالها ويحدد مآلها.
هذه الحقيقة لها دلالاتها العظيمة وفي مقدمتها: أن حال هذه الأمة ومصيرها مرتبط بالقرآن الحكيم، فبقدر اهتمامها به واهتدائها بهديه وتمسكها والتزامها بأحكامه بقدر ما تكون في مقدمة الأمم، وبقدر إهمالها له وتنكبها صراطه وتضييعها أحكامه بقدر ما تتقهقر إلى ذيل الأمم كما هو حادث الآن. ومسار الأمة الإسلامية التاريخي يؤكد ذلك توكيدا يقينيا، وهو تاريخ معروف في عمومه والعلم به يسير لمن ابتغاه، فلا نحتاج أن نعرج عليه، والمقام لا يسمح كذلك.
ولا يقولن قائل: إن وضع الأمة لا يخفى على أحد مع أننا نهتم بالقرآن الكريم غاية الاهتمام، فها هي مدارس القرآن وها هم الحفظة وها هي المسابقات والملتقيات والمؤتمرات وها هي المصاحف تطبع وتوزع وها هي إذاعات القرآن وقنواته.. إلخ. وهذا صحيح لا أنكر وجود هذه الأمور، وهي جيدة مطلوبة بلا شك، بيد أنها ليس كل شيء وليست المطلوب الكامل منا في التعامل مع القرآن الحكيم، ذلك أنا نسأل: أين روح القرآن في مختلف جوانب حياتنا؟ وأين هداية القرآن في مختلف جوانب حياتنا؟ وأين لغة القرآن في ألسنتنا وواقعنا؟ وأين أحكام القرآن في مختلف جوانب حياتنا؟ وأين أخلاق القرآن في مختلف جوانب حياتنا؟… إلخ. يقول الإمام حسن البنا رحمه الله: “ما رأيت ضائعا أشبه بمحتفظ به، ولا مهملا أشبه بمعني بشأنه من القرآن الكريم في أمتنا هذه: أنزل الله القرآن الكريم كتابا محكما ونظاما شاملا وقواما لأمر الدين والدنيا: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}.. كان القرآن فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات [والأمسيات القرآنية والمسابقات]، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم، وكان واسطة العقد في الخطب والعظات فسار بواسطة العقد في الحلى والتميمات. أفلست محقًّا حين قلت: ما رأيت ضائعا أشبه لمحتفظ به من كتاب الله؟! تناقض عجيب في هذا الموقف منا أمام القرآن”. هذه هي الحقيقة ناصعة: احتفاظ أشبه بتضييع! واهتمام أشبه بإهمال! وحضور أشبه بغياب!
إن الحقيقة التي لا يجادل فيها مجادل هو أن الأمة الإسلامية نشأت بنزول القرآن الحكيم، فهو حياتها وهو روحها، وهو عزتها ورفعتها، وهو نشأتها وهو بقاؤها، وهو ماضيها وهو مستقبلها، ولا حياة لها من غير روح، ولا رفعة لها من غير عزة! وروحها القرآن الكريم، وعزتها القرآن العظيم، فمن أراد إصلاح أحوالها وتغيير أوضاعها للأحسن الأمثل، فلا مناص له من البدء من القرآن وبالقرآن، يجب أولا أن نعيد تصحيح الرابطة بين المسلمين وبين قرآنهم وأن نعيد ربط المسلمين في حياتهم بالقرآن ونعيد تصحيح المفاهيم والسلوك والعمل على وفق هداية القرآن ونعيد تزكية النفوس وتطهير القلوب وتفعيل العقول على وزان هدي القرآن ونعيد صبغ حياة المسلمين بقيم القرآن الزاكية ومبادئه العالية وأخلاقه السامية: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}. يقول الإمام الإبراهيمي رحمه الله: “كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان. ولكن الأولين آمنوا فأَمِنُوا، واتبعوا فارتفعوا. ونحن… فقد آمنّا إيمانا معلولا، واتبعنا اتباعا مدخولا. وكل يجني عواقب ما زرع”.
إن الجانب النفسي للشعوب هو أهم عامل يحسم قضية الإصلاح والتغيير، فالشعب المتشائم، الفاقد للتحفيز في نفوس أبنائه، والفاقد لمعالم الهداية لا ينتظر منه أن يخوض معركة التغيير والإصلاح بكفاءة، بل لن يخوضها إلا ردة فعل، تعبّر عن ألم ولكنها لا تحقق الأمل! والمسلمون لا يحفزهم شيء كتحفيز القرآن الكريم ولا يحركهم شيء كما يحركهم الإسلام العظيم، هكذا كانوا في الماضي وهكذا هم الآن وهكذا سيكونون في المستقبل، وعلى من أراد أن يُسهم في إصلاح حالهم أن يأتي البيت من بابه، وباب تحريك المسلمين وتحفيزهم وتوحيدهم هو القرآن العظيم والإسلام الجليل، وقد قال الأستاذ الكبير مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله: بالإسلام قاومنا وبالإسلام انتصرنا. وأقول: بالقرآن وجدت الأمة الإسلامية، وبالقرآن عزّت، وبالقرآن تصلح أحوالها!
ومعلوم للجميع أن القرآن العظيم هو الذي حكم لهذه الأمة بالخيرية وشرّفها بذلك: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، فهل تنتظر أن تكون خير أمة وهي بعيدة عنه وعن هديه؟! هيهات هيهات!!
*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *