اخبار السودان

6 أبريل 1985: أسطورة منشأ ثورية «22»

عبد الله علي إبراهيم

صار 6 إبريل فينا ذا ثقل رمزي عن انحياز الجيش للثورة المدنية. خلافاً لذلك صح القول إنه لم يكن سوى مغادرة الجيش لسفينة نظام يغرق بعد استنفاد عمره الافتراضي. ولا أعرف وصفاً لانحياز المضطر ذلك كوصف فوزي بشرى، الإعلامي بقناة “الجزيرة”، الذي قال إن ثورة الشعب لم تترك للعسكريين خياراً غير الانحياز لها بانقلاب “وضع القدم” في الباب. وعليه قلت إن هذا اليوم داخل في عداد اسطورة المنشأ وهي العقيدة في ماض لم يقع أصلاً، أو لم يقع كما يتصوره صاحب. فما حدث في 6 إبريل كان انقلاباً على الثورة باسم الانحياز لها. وهو ما يعرف بانقلاب الفيتو أي “وضع القدم في الباب”. وشرعنا في الحلقة الماضية بيان كيف تنمر انقلاب سوار الدهب من يومه الأول على الثورة حتى جعلها عصفاً مأكولا. فلا يذكر لها أحد بصمة سياسات غيرت ما بنا لسنة من عمرها في الحكم. ولذا يتجاوزها الناس في مسرد الثورات، إلا كذكري ثورية عامة، عابرين من أكتوبر 1964 إلى ديسمبر 2018. ونواصل بيان كيف أحدق انقلاب أبو الدهب بثورة 1985 وحكومتها حتى جمدهما دون إحداث تغيير منشود في مجتمعنا.

تدخل المجلس العسكري لانقلاب 6 أبريل 1985 بلا اختصاص حتى في صورة ما ستكون عليه الفترة الانتقالية وصورة الديمقراطية للبرلمان القادم. فكان التجمع تنازل عن رأيه أن تكون الفترة الانتقالية خمس سنوات ليتفق مع الأحزاب على قصرها على ثلاث. ولم يقبل المجلس العسكري بذلك وقرر من طرف واحد أن تكون الانتقالية لمدة سنة واحدة.
من الجهة الأخرى رفض المجلس العسكري تصوراً للتجمع والأحزاب لديمقراطية توافقية تسمح للقطاعات الحديثة في المدن بتمثيل يوازن غلبة الريف الذي يعيد إنتاج برلمانات تهيمن عليها الأحزاب التقليدية. وهذا التصور لديمقراطية توافقية مستدامة قديم، كانت البذرة الأولى فيه بعد ثورة أكتوبر 1964. ولم يتحقق منه شيء. وتواضعت الأحزاب والتجمع في 1985 على تصور توافقي لا ننشغل هنا بتفاصيله، إلا أن المجلس العسكري الانتقالي رفضه، ولم يبقَ من التوافقية تلك فيه سوى دوائر مخصصة لخريجي الجامعات. وهي دوائر عرفت بـ”دوائر الخريجين” جرى اقتطاعها لخريجي المدارس العليا منذ أول انتخابات برلمانية تحت الاستعمار الإنجليزي في 1954 تمهيداً للحكم الذاتي، فالاستقلال.

وهكذا عاد البرلمان التقليدي في انتخابات 1986 بمشكلته الأزلية، وهي تغلب القوى التقليدية بغزارة جمهورها على مقاعده. فتعتزله القوى الحديثة في المدينة لأنها لا ترى صورتها فيه. فتنقلب عليه لما بيدها من أدوات الدولة، وعلى رأسها القوات المسلحة.
ومن الجهة الأخرى بدأ المجلس الغزل مع الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة المرحوم حسن الترابي، ممن عرفت وقتها بـ”السدنة” لمظاهرتها نميري منذ المصالحة الوطنية في 1977 حتى مغرب عهده في 1985. فاعتزلتها قوى الثورة كما تفعل اليوم مع أنصار الإنقاذ الذين تسميهم “الفلول”. فتكونت هياكل الوزارة الانتقالية في 1985، وقد خلت من أي ممثل للجبهة القومية الإسلامية. ولم يتفق المجلس العسكري مع التجمع النقابي في عزل الإسلاميين. فأرسل طائرة خاصة لمدينة الأبيض بغرب السودان الأوسط لنقل حسن الترابي، الذي كان اعتقله نميري مع نفر آخر من رفاقه في أصيل نظامه، من الحبس الاحتياطي فيها إلى الخرطوم حراً طليقاً.

وكان أنصاره تظاهروا في 7 أبريل مؤيدين انقلاب سوار الذهب. وطالبوا المجلس العسكري بإنهاء الإضراب العام. واجتمع قادتهم بالعسكريين ليصرحوا بأنه لا الأحزاب مثل حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي ولا النقابات مأذونة للعمل السياسي. وخلت لجنة الدستور التي كونها المجلس من ممثل للتجمع النقابي الأصل في الثورة.

وذكرت أكاديمية بيردج أن العميد حسن أحمد البشير، الذي انقلب على النظام الديمقراطي في 1989، طرأ على اجتماع بين العسكريين والتجمع النقابي ليصف التجمع بأنه شلة شيوعيين بوسع الجيش أن يقطع دابرهم في أي وقت.

وانعقد التحالف بين الإسلاميين والمجلس الانتقالي على أشده بعد استئناف العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، للحرب، وإسقاطه لطائرة ركاب مدنية فوق سماء مدينة ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل الجنوبية. فخرج الإسلاميون يظاهرون المجلس العسكري ويطالبون بالعمل العسكري للتصدي لقوات الحركة.

ولا أعرف عبارة وثقت لكسب الإسلاميين من انقلاب سوار الذهب مثل كلمة عبد الوهاب الأفندي القائلة:
“ليس معلوماً دور الإخوان في انقلاب 1985، لكنهم لم يكونوا ليتمنوا واقعة أفضل لهم منها في أقصى أحلامهم شططاً”.

ربما لا نحتاج إلى غير النظر في 6 أبريل كأسطورة منشأ، بالعلل المعروفة لهذه الأسطورة، لفهم كيف غلب العسكريون على المدنيين في قوى الحرية والتغيير بعد نحو ثلاث سنوات من قيام الثورة. فكانت هذه القوى استأمنت انقلاب 11 أبريل 2019 بعقيدتهم في انحياز الجيش لثورتهم المدنية بقدوة 6 أبريل 1985 واستنامت له. وواسطة عقد هذه الاستنامة نظرية روج لها عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، شخصياً مفادها أن تحالف المكون المدني مع المكون العسكري حدث سوداني ثوري استثنائي. ولم ير حمدوك في انقلاب 11 أبريل انقلاب الفيتو الذي وصفناه ورأيناه مطبقاً بواسطة انقلاب سوار الذهب مستضعفاً الحكومة المدنية الانتقالية حتى صارت رسماً مجوفاً.

لم يستغرق انقلاب سوار الذهب غير أيام ليستغني عن الحكومة الانتقالية ويجردها من وظائفها في حين صبر انقلاب البرهان وصابر الحكومة الانتقالية لثورة ديسمبر نحو ثلاثة أعوام ليطيحها انقلاب أكتوبر 2021 بعد أن ظل يحفر لها ويكيد. والانتقالية، بعقيدتها في أسطورة انحياز الجيش للشعب في 6 أبريل ثم في 11 أبريل، غافلة عما يدبر لها حتى وقع المحظور وحدثت الندامة.

6 أبريل 1985: أسطورة منشأ ثورية «1 2»

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *