اخبار السودان

حميدتي والديمقراطية السودانية , اخبار السودان

حميدتي والديمقراطية

أمل محمد الحسن

الدعاية الحربية التي تستند عليها قوات الدعم السريع في حربها ضد الجيش تستند على نقطتين؛ الأولى أنها تقاتل من أجل التحول المدني الديمقراطي، والثانية هي محاربة فلول المؤتمر الوطني في الجيش، والأولى والثانية ترتبطان ارتباطاً وثيقاً كون المؤتمر الوطني هو الذي يقوم بمحاولات مستمية لوأد ثورة ديسمبر وقبرها للأبد.

ولمراجعة الأسس التي تستند عليها رؤية الدعم السريع من المهم العودة خطوات للوراء لتمحيص مواقفه منذ اندلاع الحرب حتى العودة إلى تاريخ إنشائه. ومن المؤكد أنه قبل اندلاع الحرب أعلن قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) دعمه للاتفاق الإطاري وأكد في أكثر من خطاب جماهيري أنه الحل الأوحد لمشاكل السودان.

وكانت الخلافات في الاتفاق الإطاري محصورة في قيادة التحكم والسيطرة لقيادتي الجيش والدعم السريع، اقترح الجيش أن يستمر الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش على رأس القوات جميعها فيما طالب الدعم السريع بأن تكون قيادة التحكم والسيطرة للرئيس المدني الذي سيأتي به الاتفاق الإطاري.

ومن المؤكد أن الخلاف حول سنوات الدمج تم حسمها بحد أقصى 10 سنوات ووقع البرهان على هذا الاتفاق. ما سبق ذكره هو معلومات متوفرة ومؤكده بشواهد مبذولة في الوسائط، لكن السؤال الحقيقي يجب أن يكون حول الدعم الكبير الذي منحه “حميدتي” للاتفاق الإطاري وبحث السبب خلف ذلك خاصة وأن الرجل شارك في الانقلاب العسكري الذي تم في نهاية عام 2021، كما أعلن وقتها عدم عودة القوات إلى الثكنات كما كانت تطالب المواكب الهادرة الرافضة للانقلاب العسكري، وقال قولته الشهيرة (إنهم يسنوا في السكاكين ويطلبوا مننا نرجع ثكناتنا، ما بنرجع)!

السبب الرئيس حول تبدل مواقف حميدتي هو تجدد الخلافات بينه وبين البرهان حول وقوف الكيزان خلف الانقلاب العسكري ومسارعتهم لملء كراسي السلطة في كافة مؤسسات الدولة التي تمت فيها إقالات بالجملة لمنسوبي الأحزاب أو كل من تم تعيينه بعد الثورة.

وهو خلاف قديم بين الرجلين تفجر في أيام حكومة الفترة الانتقالية وتدخل وسيطاً للحل رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الذي أبدى قلقه في خطاب شهير من خلافات العسكريين أنفسهم. ووضع حميدتي أمام الوسيط قائمة تشمل 800 ضابط يتبعون للكيزان داخل القوات المسلحة وقال للبرهان إنك وعدت بإقالتهم جميعاً وتنظيف الجيش من فلول النظام البائد، وفي جلسة الوساطة أكد البرهان أنه على وعده وطالب بمدة زمنية لينفذ فيها الاتفاق.

عادت المياه إلى مجاريها، واتفق الجنرالان بعدها على الانقلاب على الوثيقة الدستورية، ليتفاجأ “حميدتي” بأن الانقلاب إسلامي بالكامل وأنهما، الجيش والدعم السريع، كانا واجهة فقط! وبمجرد اختفاء الطرف المدني الذي كان يتم تعليق كل الاخفاقات عليه لم يكن هناك بد من التصادم واندلاع الحرب فالحوار تحول من لغة السياسة إلى السلاح.

مخاوف “حميدتي” من الكيزان تعود لمعرفته التامة بهم، كونه صنيعتهم، وهو يعلم عواقب انقلابه عليهم عقب سقوط البشير ومساهمته في عدم استخدام قواته لضرب الثورة والثوار. كانت تلك هي اللحظة التي قال فيها “لا” ليس وقوفاً إلى جانب الحق لكن لأنه تعب من أن يكون اليد الباطشة التي يستخدمها نظام “البشير” لضرب الأعداء والحلفاء السابقين! وأراد أن يكون له مقعد في السلطة ليلقي الأوامر بدلاً من أن ينفذها!

وبعد أن بنى امبراطوريته العسكرية الاقتصادية الضخمة وذاق حلاوة السلطة وبهرجة الكرسي والسارينا التي تتقدمه والطائرات والحرس والأبهة لم يكن يريد لكل ذلك أن يمضي وينتهي ويصبح ماضياً، بل أراد أن يتذاكى ويطأطئ للعاصفة ويلبس عمامة الديمقراطية ويكرر عبارات التغيير حتى يلتف على الأوضاع ويأتي من باب آخر مترشحاً للرئاسة!

وكشف “حميدتي” بنفسه عن تلك النية فيما خرج من فلتات لسانه؛ عندما قال سأخلع الزي العسكري وارتدي الجلباب وآتيكم عبر الانتخابات! كانت تلك هي خطته بعيدة المدى التي حاول أن يمدد من أجلها دمج قواته لعقدين من الزمان، ثم فاوض حتى صارت عقداً، عشر سنوات كاملة يستغلها في الصولات والجولات وسط الإدارات الأهلية والأقاليم مستخدماً الأموال الهائلة التي بين يديه ليدفع الرشاوى ويشتري الذمم بالسيارات الفارهة والأموال التي تحمل على ظهور “البكاسي”!

لو كان حميدتي جاداً في دعمه للديمقراطية والتحول المدني لما شاركت قواته في فض اعتصام القيادة العامة، وإن شاركت بدون علمه كما يحاول أن يوحي عبر الحديث المغلف كان يجب عليه أن يقف بشجاعة ليقول من فعل ذلك ويساهم في تقديم كل المسؤولين عن تلك المجزرة للمحاسبة لكنه لم يفعل، بل انتشرت قواته في العاصمة وفي الولايات ترهب الناس طوال الأيام التي تلت المجزرة في أيام مباركات من عيد الفطر المبارك لم يراع حرمتها!

بنى حميدتي لنفسه دولة داخل دولة؛ انتشرت قواته في جميع المناطق الاستراتيجية، تمددت علاقاته الخارجية لتشمل روسيا والإمارات وانشأ لنفسه استثمارات في عدد من الدول الأفريقية، ووصل به الأمر لكسر الأعراف الدبلوماسية بالسفر إلى تشاد بعد يوم واحد من زيارة البرهان لها في أواخر أيام علاقتهم المتوترة!

مشاركته في الانقلاب العسكري كانت النقطة الثانية التي تؤكد عدم علاقته بالحكم المدني أو الديمقراطية. ثم مشاركته في الحرب الآن وارتكاب قواته كل تلك الجرائم لم تجعله يتراجع خطوة واحدة، وكلما ردد في خطاباته التي يلقيها من قارة أخرى ويقول فيها إنه يوصي قواته بالمواطن “المواطن ثم المواطن…” يموت العشرات وهم يحاولون صد عدوان قواته في قرى بعيدة لا فيها وزير ولا حاكم، تسرق فيها كرامة الإنسان قبل أمواله وتتم فيها الاعتقالات ويغيب القانون ويموت الأمل!

كان يسعى للسلطة وهمه السلطة ويقاتل الآن من أجل السلطة، لكنه واجه مهووسا آخر بالسلطة يريد أن يحقق حلم والده بجلوسه على كرسي حتى وإن كان مصنوعاً من جماجم أبناء الشعب السوداني! لن تجلب الحرب الديمقراطية للسودان ولن تجلب أي خير وفي كل يوم تستمر فيه تموت آمال الشعب بعد أن مات منهم الزوج والبنت والولد وشقت على الناس الحياة وحاصرهم الجوع وتقطعت بهم السبل.

على الجنرالين أن ينزلا رايات دعاياتهما الحربية الكاذبة الآن ويتوقفا عن القتال حتى لا نفقد السودان كما نعرفه ووقتها سيهرب كل واحد من تحمل كل تلك الفواجع والدمار الذي حاق بالوطن، لو كانوا يفهمون حقيقةً معنى وطن!

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *