اخبار السودان

حرب السودان: مسؤولية من؟ السودانية , اخبار السودان

عثمان نواي

بقلم: عثمان نواي

ان المسار الذى يذهب اليه تحليل الكثيرين، خاصة المجتمع الدولى ،لأسباب الحرب الحالية هو صراع الجنرالين على السلطة. وهذا تحليل سطحى وفطير للغاية. من ناحية أخرى يتبنى الكيزان تحليلات ذات طابع أثنى وقبلى عنصرى، واخرى ذات طابع انتقامى من الثورة وحانقة على فشل الانقلاب فى أكتوبر ٢٠٢١ باعتباره ثورة مضادة لم تنجح فى ان تعيدهم للسلطة كما يرغبون. بينما تتبنى قحت تحليلات تستخدم مصطلحات الصوابية السياسية هروبا من تبيان مواقفها السياسية.

لقد بدأت الأزمة فى ظل المشاورات التى نتجت عن محاولات دفع الاتفاق الإطارى للنجاح بالقوة رغم رفض مجموعات واسعة له على رأسها لجان المقاومة. فإن الإصلاح الامنى والعسكرى كان نقطة المحك الرئيسية التى ما كان من الممكن الالتفاف حولها ببيانات ورش مليئة بالانشاء ، فى اغلب الذى نتج عن ورش الاتفاق النهائى قبل الحرب. فعندما تتحدث عن إصلاح جيوش سيكون هناك أرقام وحسابات و مواقيت. ولان تلك اللحظة بالذات كانت لحظة حاسمة فى علاقة اربع قوى رئيسية وهى الجيش والدعم السريع وقحت والكيزان. وعلى هذا الاساس كان توازن القوى يستدعي اصطفافات عسكرية مدنية واضحة كانت نتيجتها هى فشل للورشة وفشل أيضا للاتفاق الإطارى الذى لم يؤطر سوى الفترة الزمنية لصراع عسكرى كان محتوما طال الزمن او قصر منذ سقوط البشير. ولم يحدث الاتفاق الإطارى انتقالا ديمقراطيا ،بل أحدث انتقال الصراع السياسى من الساحة المدنية الى العسكرية بالكامل. ولم يكن ما حدث فجر ١٥ أبريل اشتباكات عادية بل كان اصطداما بين مخططين للهجوم من قبل الطرفين مع فوارق فى الزمن. ولم يكن ابدا سؤال من البادئ مهماً فيما جرى بعد الطلقة الأولى. ليس لأن البادئ اظلم. ولكن لان كلاهما كان يستعد للهجوم على الآخر في لحظة ما.

النقطة الأكثر أهمية فى انفجار الصراع على خلفية محاولة ابتدار الإصلاح الامنى والعسكرى ليست فى التوازنات السياسية ولا فى توقيت اندماج الدعم السريع فى الجيش. كل هذه تفاصيل سطحية للاستهلاك السياسى. ولكن الإشكالية الكبيرة هى فى عدم ادراك القوى التى كانت تدفع باستعجال الإصلاح الامنى والعسكرى لحقيقة ان السودان هو دولة مبنية فى هيكلتها واسسها على الجيش. وان محاولة إصلاح الجيش هى محاولة لإصلاح الدولة ككل. وبالتالى مع عدم وجود مؤسسات بديلة للدولة يمكن ان تساعد الدولة نفسها فى امتصاص اى صدمات تنتج من إصلاحات هيكلية عميقة كالتى كان يتم السعى لها، فإن الخطر يكمن في تهديد بنيان الدولة المعتمدة على الجيش بكل اشكالياته الهيكلية التى تنعكس على الدولة السودانية نفسها . وفى غياب برلمان شعبى واليات حكم محلى وقضاء مستقل او اى مؤسسات حكم ثابتة أخرى فإن إصلاح الجيش كان يعنى أصلاح هيكلة الدولة السودانية كلها دون وضع احتياطات إمكانية حدوث ضرر بالغ يعطل الدولة بالكامل أثناء الإصلاح او يدمر أساسها.
ورغم ان الدعم السريع هو جيش موازى، وبدء يشكل دولة موازية عبر موارده الاقتصادية الكبيرة وتوسع انتشاره، ولكنه لا يرقى ليكون دولة بديلة. ولازال كيان جديد غير منضبط على جانب الهيكل الرئيس الذى تحكّم فى السودان من خلال حكم عسكرى وشبه عسكرى لاكثر من ٦٠ عاما وهو الجيش . لذلك فان الإصلاح الامنى والعسكرى كان خطوة متعجلة سمحت لاهتزاز كبير فى بنية دولة هشة أساسها جيش متهالك البنية، والا لما احتاج الى تكوين الدعم السريع فى الأساس “لدعمه فى حروبه الداخلية” . وعلى ذات المستوى، فإن الدعم السريع ليس بالقوة الكافية لكى يقوم بعملية إحلال وابدال للجيش لا عسكريا ولا مؤسساتيا. ولكن الأهم هو ان القوى المدنية التى انحازت للطرفين إنما تواصل لعبة الأفندية التاريخية فى الاستعانة بالجيش عند فشل الأفندية وأصحاب الياقات البيضاء فى الاتفاق بشكل سلمى سياسي مدنى لقسمة السلطة، ولذلك يرمونها فى يد الجيش وينوحون على الديمقراطية التى فرطوا فيها بكل وعى أناني راغب فى احتكار السلطة “دون ديمقراطية ان أمكن”. فكل الانقلابات العسكرية في السودان لم يقم بها الجيش وحده، فهى دوما انقلابات ناتجة عن ايعازات وتحالفات مع القوى السياسية المدنية.

انقلاب عبود مثلا كان مدفوعا من عبد الله خليل وحزب الامة بعد خلافات الحزبين و خلافات حزب الأمة الداخلية. انقلاب نميرى لم يكن بعيدا عن ايدى اليسار وبعض الشيوعيين، و انقلاب البشير كان بقيادة الاخوان المسلمين. ولذلك فإن انقلابات البرهان ٢٠٢١ ومحاولة انقلاب حميدتى فى ١٥ أبريل والتى سبقت ترتيب انقلاب كيزانى فى الجيش أيضا كلها لها خلفيات دعم سياسى مدنى وليست من بنات افكار العسكر وحدهم. العسكر فى السياسة السودانية اشبه بالأخ المشاغب الذى يحب ان يستخدم يديه فى اى “شكلة” ويدخل بقوته لا بعقله فى اى مشكله. اما المدنيين فهم الاخوان، اما الجبناء الذين يختبؤون خلف الاخ المشاغب العنيف او الأذكياء الذين يجعلون الاخ يتقدم الشكلة ويذهبون لتبليغ الآباء والظهور بمظهر العقلاء بعد ان كانوا هم المحرضين اوالمشجعين على أقل تقدير.

ما يجب ان يكون واضحا فى الحرب الراهنة ان الأطراف المدنية التى كانت تشكل رباعى الصراع قبل الحرب مع الجيش والدعم السريع هى مسؤولة بشكل كامل مما حدث كما ان الجيش والدعم السريع مسؤولين عما يحدث الان. فالكيزان من جانب وقحت من جانب اخر لا يمكنهما غسل ايديهما من الدماء فى هذا الصراع الان. فان كنت لا تحمل البندقية لا يعنى انك لا تساعد حاملها فى ان يجد الشرعية لاطلاق الرصاص. ورغم ان قحت تتبنى خطاب صوابية سياسية بشعار “لا للحرب”، الا انها غير معفية من المسؤولية السياسية والاخلاقية وربما القانونية أيضا من سماحها لمليشيات الدعم السريع لإيجاد شرعية لنفسها موازية لشرعية الجيش وإعلان نفسها حامية الديمقراطية فقط لأنها دعمت الاتفاق الإطارى مقابل رفض او تماطل الجيش والكيزان. وان هذا لعار كبير للديمقراطية فى السودان ان تحميها مليشيا من المرتزقة. وليس الجيش الذى حمى الكيزان وارتكب المجازر عبر تاريخ السودان بأهل لان يدافع عنه اى سودانى وطنى واعى دون تحفظات كبيرة على تاريخه وحالته الراهنة. الجيش نفسه الان يختبر اهميه إصلاح نفسه داخليا، حيث ان الجنود وصغار الضباط يعانون الأمرين ناهيك عن أزمات الهيكلة الداخلية الأخرى التى أدت تأخر تحقيق نصر كامل. اذن فلا الصوابية السياسية منجية ولا الحمية العمياء الداعمة للجيش ضد الجنجويد والتى يسميها البعض وطنية هى الحل.

وعدم الحق فى نفض اليد عن المسؤولية يطال المجتمع الدولى أيضا. فولكر خلال الأيام الماضية صرح بانه غير مسؤول عن ما جرى بعد الاتفاق الإطارى، وهى عادة تاريخية للنخب فى كل العالم. هم دوما يدفعون الجنود للحرب ويبقون هم لإصدار الأحكام الأخلاقية وتقسيم غنائم السلطة. المجتمع الدولي بكل اطرافه ناهيك عن تدخلات الأطراف الإقليمية، فتلك قصة أخرى. ولكن المجتمع الدولى صنع أرضية أدت الى تفجر هذا الصراع بشكل عاجل وهو يتفرج الان على نتائج دفع السفراء لاكمال الاتفاق الإطارى قبل إغلاق ميزانيات السفارات، دون التفكير فى حساسيات التوازنات على الأرض التى كان واضحا انها تنفجر الى حرب فى اى لحظة.

إن الواقع الراهن لا يقبل الحياد، ولكنه أيضا لا يقبل الانحيازات المدمرة. والانحياز المطلوب ليس لاحد طرفى النزاع او لقبيلة او اثنية او حزب، بل الانحياز التام للوطن وهذا الشعب الذى وحدت بينه الدانات والشتات النزوح وتساوى فى الفقد والموت و الاغتصاب. وحد السودانيين الخوف والغضب والجوع الذى فرضه عليهم قادتهم السياسيين والعسكريين بعد أن فشلوا فى توحيد السودان تحت راية وطنية تساوى بين مواطنيه. ولذلك فإن الحروب الأكثر عبثية إنما تدور فى رواقات السوشيال ميديا ونقاشات المثقفين والنخبة السياسية. ان اللحظة الراهنة تتطلب مواقف تتعالى فيها قيم الوطنية والإنسانية على المفاهيم السياسية والانتماءات الفكرية. واذا لم يكتب للسودان ان ينجو من هذه الحرب فإن المسؤولية فى اعناق العسكر والمدنيين، لا نقزل على حد السواء، ولكن كلاهما مسؤول عن ما جرى وسيجرى. وربما كان تحمل هذه المسؤولية هو الصوابية الاخلاقية السياسية المطلوبة وهو بداية تغيير حقيقي يبنى وطنا لا يحرقه أبنائه.
[email protected]

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *