اخر الاخبار

هيمنة الدولار تتراجع

توالت مؤخرا خطوات تبنّتها العديد من الدول للتخلي عن الدولار الأمريكي في تعاملاتها التجارية، كان آخرها الخطوة التي أقدمت عليها البرازيل والصين في بداية أفريل الجاري، مع اتفاقهما على استخدام عملتيهما المحليتين في التبادل التجاري فيما بينهما، بدلًا من استخدام الدولار، وهو توجه أبرز رغبة أطراف فاعلة في إحداث تغيير في نظام فوترة التجارة الدولية الذي كانت تحت هيمنة وسطوة الورقة الخضراء الأمريكية.

وكشف الاتفاق البرازيلي الصيني، وهما دولتان عضوان في مجموعة “البريكس” التي تتجه لمناقشة مشروع خاص بإنشاء عملة موحدة لدول التكتّل، عن توجه يندرج في سياق تغيرات في بنية النظام الدولي وجملة الاصطفافات التي يشهدها نظام ما بعد “بروتون وودز”، حيث تستمر الصين في ضم المزيد من الدول إلى دائرة البلدان المتعاملة بالعملة الصينية اليوان والعملات المحلية في التجارة الخارجية.

واعتبر الدولار الأمريكي العملة المعتمدة في معظم الحركات التجارية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما أعطى الاقتصاد الأمريكي ميزة، لأنه يطبع الأوراق النقدية المستخدمة في التجارة الدولية، حيث أصبح الدولار أول عملة احتياط وصرف في العالم دون منازع عندما وافقت الولايات المتحدة بين عامي 1946 و1971 على قاعدة “قابلية الاستبدال بالذهب” بسعر ثابت قدره 35 دولارا للأوقية، لذلك تهافتت البنوك المركزية على الدولار من أجل تكوين احتياطياتها، خاصة أن ودائعه كانت مستقرة مثل الذهب إضافة إلى سهولة إدارتها، وبالتالي بدا أن الأميركيين ينتجون ذهبا عندما يطبعون بعض الدولارات.

وعلى الرغم من تخلي الولايات المتحدة عن ربط العملة بالذهب عام 1971، إلا أنها استطاعت أن تربط جلّ الدول في تحمّل مخاطر التعامل والاحتفاظ بالدولار الذي يستحوذ على 60% من استثمارات الاحتياطيات من النقد الأجنبي للدول.

وللعلم، فإن قوة الدولار مبنية على أساس “معنوي” مرتبط بقوة البلاد العسكرية والاقتصادية ونفوذها السياسي و”ثقة” الدول والشركات والأفراد بمتانة الاقتصاد الأمريكي يدفعهم للثقة بالدولار وجعله عملة تحوط من الأزمات، إلا أن الدين الأمريكي الذي بلغ نهاية 2022 نحو 31.4 تريليون دولار، أي ما يعادل 125 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي حالة فقدت الورقة الخضراء جاذبيتها عالميا وأوجدت الاقتصاديات الكبرى بدائل للدولار، فإن ذلك سيؤدي إلى بيع كثيف للسندات الأمريكية ووضع صعب بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، وهو سيناريو يسبّب صداعا لواشنطن.

وبصورة متدرجة، قام الأميركيون بتحويل عملتهم إلى سلاح للضغط السياسي، مما نتج عنه حركة تميل لزحزحة زعامة الدولار. وكشفت بعضا من الحوادث عن اختلالات تصب في دائرة لغير صالح العملة الخضراء، ففي عام 2014 اضطر بنك باريبا إلى دفع غرامة قدرها 9 مليارات دولار إلى الولايات المتحدة بسبب قيامه بتمويل صادرات من كوبا والسودان وإيران بالدولار، لأن هذه الدول الثلاث كانت تحت الحظر الأميركي.

وفي نفس السياق، جاء اضطرار مغادرة الشركات الأوروبية إيران عام 2018، وفي عام 2019 منعت جمعية “سويفت” جميع المصارف الإيرانية تقريباً من استخدام نظام المراسلة، كما جاء قرار تجميد احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي الروسي المقوّمة بالدولار في عام 2022، ناهيك عن الحروب التجارية مع الصين وارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا.

 

الصين وروسيا تقيمان أنظمة تسوية خاصة

 

من بين الآليات المستحدثة في سياق تجاوز نظام “بروتون وودز”، قيام الصين بتطوير نظام التسوية الإلكترونية الخاصة بها بين البنوك، وهي توفّر بديلا لنظام “سويفت” التعاوني الذي يسيطر عليه الغرب. بالمقابل أقرت موسكو “مير” الذي يعد نظام دفع روسي لتحويل الأموال إلكترونياً أنشأه البنك المركزي الروسي في ديسمبر 2015، بموجب قانون تم تبنيه لاحقاً في 1 ماي2017 ينص على أنّ جميع مدفوعات الرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية يجب أن تتم معالجتها من خلال نظام “مير” ليتم تطوير “مير” وتطبيقه مدفوعاً بالعقوبات الدولية على روسيا في عام 2014 في ظل حظر “ماستركارت” و”فيزا” في روسيا إثر ضم شبه جزيرة القرم.

وفي خطوة نحو بناء نظام نقدي جديد ينافس النظام النقدي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، ويهيمن عليه الدولار، اتجهت الصين بسرعة نحو ربط سعر صرف عملتها اليوان بالذهب بالتعاون مع روسيا ودول “البريكس” التي تتشكل من الاقتصاديات الناشئة الكبرى على رأسها الهند وجنوب إفريقيا، إضافة إلى دول طريق الحرير.

وقام البنك المركزي الروسي وبنك الشعب الصيني (البنك المركزي)، باتفاقيات إنشاء نظام تسوية فوري بين اليوان والروبل، وهو يمهّد تدريجياً نحو تحول اليوان الصيني إلى عملة مرتبطة بالذهب بدلاً من الدولار.

 

خطوات متلاحقة خارج دائرة الدولار

 

وفي وقت أعلنت فيه روسيا على لسان الرئيس فلاديمير بوتين في مارس 2022، منع تصدير النفط والغاز الروسيين بالدولار أو الأورو، وإلزام الدول غير الصديقة المستوردة بدفع الثمن بالعملة المحلية الروسية “الروبل”، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ في ديسمبر 2022 أمام قادة دول الخليج، أن الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان، وهي خطوة من شأنها أن تدعم هدف بكين في ترسيخ عملتها دوليا وإضعاف قبضة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية، في وقت تم الإعلان في مارس الماضي، أن اليوان أصبح ثاني أكبر عملة احتياطية في البرازيل متجاوزا الأورو.

وفي خطوة جديدة في مارس 2023، أعلنت بورصة شنغهاي تسعير شحنة غاز إماراتية بالعملة الصينية، وأشارت بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي، أن شركتي الصين الوطنية للنفط البحري (كنوك) وتوتال إنرجيز، أتمتا من خلالها أول تعاملات الصين في الغاز الطبيعي المسال التي يجري تسويتها باليوان، وشملت نحو 65 ألف طن من الغاز الطبيعي المسال المستورد من الإمارات.

فيما اتفقت البرازيل مع بكين على التبادل التجاري باليوان، ودعّمت روسيا استخدام اليوان في تجارتها الخارجية موازاة مع توجه دول بريكس على إنشاء “عملة موحدة”.

بالمقابل بدأت دول منظمة “آسيان” تسعى لتقليل الاعتماد على الدولار وتوسيع استخدام العملات الوطنية في معاملاتها.

ودقت واشنطن ناقوس الخطر بتحذيرات أطلقتها المستشارة الأمريكية السابقة لوزير الخزانة مونيكا كرولي، مفادها أنه في حالة ما إذا قررت دول أوبك، مثل السعودية، بيع النفط بعملات أخرى، فهذا سيعني انهيار النظام الاقتصادي الأمريكي وكارثة كبرى. وفيما اعتمدت دول مثل الهند والبرازيل التوجه نحو التعامل باليوان في تجارتها الخارجية مع بكين، فضلت دول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية، تنويع سلة عملاتها في تجارتها الخارجية بديلا عن الدولار، كما أن دول إفريقية اقتفت أثر الدول المفتاحية في تنويع سلة عملاتها أيضا في تجارتها الدولية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *