اخبار السودان

لجان المقاومة: أحزاب سياسية أم تنظيمات ضغط مدنية؟

 

لجان المقاومة: أحزاب سياسية أم تنظيمات ضغط مدنية؟

شمس الدين ضوالبيت

يدور هذه الأيام حديث وجدل غير قليل حول علاقة لجان المقاومة بالسياسة، وعن دورها ’الصحيح‘ في فترة الانتقال وما بعدها، وهل لجان المقاومة أجسام سياسية أم أنها محموعات ضغط مدنية؟ وهل من مصلحتها ومصلحة البلد الابتعاد عن السياسة أم الانخراط فيها؟ قد يبدو النقاش بهذه الصورة عجيباً حول طليعة لكتلة جماهيرية ضخمة، غير مسبوقة في حجمها واتساع رقعة انتشارها، أشعلت الثورة وأسقطت نظاماً سياسيا غير مسبوق أيضاً في شراسته وقوة تنظيمه وتمكينه، لأن الطبيعي في هذه الحالة أن القوة التي اسقطت مثل هذه النظام السياسي لابد أن تكون قوة واعية بما كانت تواجهه وتعمل على اسقاطه، من واقع معرفتها بتوجهاته وممارساته السياسية، أي أنها بطبيعتها كتلة وطليعة سياسية بديلة للقائم..

 

وفي الحقيقة لم تبدأ النقاشات حول طبيعة لجان المقاومة في الأيام القليلة الفائتة فقط، فقد كان هذا هو موضوعنا الرئيسي في حلقات الحوار المسائية في زنازين وعنابر كوبر منذ بدايات 2019، أي بعد أسابيع قليلة من تبلور فكرة لجان مقاومة ثورة ديسمبر. وكان الانقسام التقليدي في تلك الحوارات هو نفسه الانقسام الحالي، بين مجموعتين ترى أن لجان المقاومة هي طليعة سياسية لكتلة جماهيرية عليها أن تتصدى لبلورة تطلعات كتلتها الجماهيرية في رؤى ومواقف سياسية وبناء ما يعبر عن نلك الرؤى والمواقف من تظيمات حزبية ومدنية وثقافية وفنية، تشكل بها كامل الفضاء السياسي لما بعد الثورة، وذلك بحكم اختلافها النوعي عما قبلها من فترات وثورات، وبين مجموعة أخرى مكونة غالبا من مناضلين شباب منتمين لأحزاب قائمة يرون أن الطبيعي أن تتصدى للحكم في الفترات الانتقالية وما بعدها الجهات التي لديها برامج وخبرات وتنظيمات سياسية جاهزة، يقصدون بذلك الأحزاب، وأن لجان المقاومة هم حراس الثورة ومهمتهم أن يكوَنوا مجموعات ضغط تراقب السياسيين والأحزاب الحاكمة للتأكد من أنهم لا يحيدون عن خط الثورة وينفذون مطالبها، وقد تبلور هذا التيار لدى البعض في ان الموقف الصحيح تحول لجان المقاومة إلى حركة حقوق مدنية ..

 

وكما هو واضح يعتبر هذا التيار أن لجان المقاومة غير مؤهلة للمشاركة في إدارة الفترة الانتقالية وما بعدها لأنها لا تملك برنامجا سياسياً جاهزاُ مثل الأحزاب. هذا التصور غير دقيق أيضاً لأنه لا يأخذ في الاعتبار طبيعة الكتل الجماهرية التي تنجز الثورات. تاريخياً وفي معظم الثورات الإنسانية الحديثة كان الذي يجمع هذه الكتل هو رفضها الصارم لاستمرار الوضع السياسي القائم. هذا الرفض يستبطن في ذاته برنامجاً سياسياً بديلاً، يجري تفصيله عادة في الفترة اللاحقة للثورة في برامج حزبية وسياسات مدنية لا تكون بالضرورة موحدة، ولكن يجمع بينها القاسم المشترك للثورة، على سبيل المثال، الحرية والإخاء والمساوة في الثورة الفرنسية، وبالتالي الحرية والسلام والعدالة في ثورة ديسمبر، ولكن بتفاصيل حزبية ومدنية قد تختلف من هذا لذاك.

 

قد يبدو من هذا الطرح أن الانقسام على هذه الخطوط هو بين شباب لجان المقاومة من جهة والأحزاب السياسية وشبابها من جهة أخرى. هذا ليس دقيقاً، لأن هذا الانقسام موجود حتى داخل لجان المقاومة نفسها. سألتُ مشاركين من قيادات لجان المقاومة في فعالية تدريبية ضمت حوالي أربعين منهم عما سيكونه دورهم في انتخابات حرة ونزيهة في نهاية الفترة الانتقالية إن أقيمت وهل ستكون علاقتهم بها علاقة مشاركة: مرشحين أو أعضاء في جهات تدفع بمرشحين؟ أم أن علاقتهم بها ستكون علاقة مراقبين: أجسام تتأكد من نزاهة الانتخابات وشفافيتها؟ انقسمت مجموعة قيادات لجان المقاومة التي ضمن مشاركين من الجنسين إلى قسمين متساويين بين المشاركة والمراقبة، وأبدى بعض من أختار صفة المراقبة امتعاضاً من أي مشاركة في السياسة ..!

 

في تقديري يعود هذه الالتباس الكبير إلى المفهوم المترسخ حالياً لدى الشباب عما تعنيه السياسة. وفي الحقيقة لهم كثير من الحق في ذلك، لأن السياسة مورست في بلادنا، في أكثر الأحايين، ولمدى فترة طويلة على أنها أساليب الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها وجني ثمارها ووجاهاتها، بغض النظر عن أساليب الوصول أو الاحتفاظ بتلك السلطة. والأمثلة كثيرة: من شراء النواب في البرلمانات، وبناء أذرع داخل القوات المسلحة للانقضاض السريع على السلطة، وصناعة المليشيات، وتمزيق الدساتير، واختطاف أجهزة الدولة واستغلال الدين وما يجري حالياً من تكالب على السطة الانتقالية، وفساد السياسيين.. الخ. هذه ليست السياسة في تعريفها الحقيقي، لأن السياسة هي في الأصل علم بناء الدول والمجتمعات، وهي من أكثر أدوات التغيير أهمية، ولم تبلغ أي دولة شأواً في عالمنا المعاصر إلا بتصدي جهات سياسية أحزابا وأفراد ببرامج استراتيجية مدروسة وصحيحة لمهمة بناء مؤسسات دولهم ومجتمعاتهم. ولم تصل أي دولة أو مجتمع في عالمنا المعاصر، ومن بينها بلادنا ومجتمعنا، إلى الحروب الأهلية وحافة الفشل والانهيار إلا لغياب مثل هذا الجهات بذلك المفهوم العلمي للسياسة. بهذا المفهوم الجديد للسياسة فإن كلاً من المشاركة في الانتخابات أو الحياة السياسية كمرشح حزبي أو مراقب مدني فهو عمل سياسي بامتياز، لا اختلاف بينهما إلا أن الأول يرمي للاستعانة باجهزة ومؤسسات الدولة في التغيير والثاني يستخدم الأدوات المدنية والثقافية، ولكنهما يتكاملان معاً لبناء الدولة والمجتمع.

 

أما السبب الآخر للالتباس فيعود إلى مواقف أحزابنا السياسية من لجان المقاومة. طبيعي أن تسعى الأحزاب في أي مكان لاستقطاب عضوية جديدة وأن تفعل ما بالإمكان للتأثير على الكيانات الجديدة وجذبها قريباً من مواقفها السياسية، هذا حق حزبي مشروع. لكن في حالة السودان هناك سقف أخلاقي ووطني على هذا الحق وهو الالتزام بقيم الشفافية والنزاهة والشرف في استخدام هذا الحق، والابتعاد عن أساليب الاختراق والتغويص والترهيب والترغيب واستغلال ضعف خبرة وتجربة الشباب الجديد، وكف الأيادي عن تخريب تطورهم في أجواء سياسية معافاة، توفر لهم الحق في تقرير مصيرهم، ويختارون فيها بأنفسهم وبكل حرية الطريق الذي يريدونه لمستقبلهم سواء الانضمام مستقبلاً لذات هذه الأحزاب أو الاستقلال بأحزابهم وتنظيماتهم المدنية والثقافية الجديدة. في الحقيقة، هذه المطلوبات التي ذكرتها هي في الأساس مطلوبات كل منافسة ديمقراطية نزيهة وشريفة ومستدامة، ولكنها أكثر إلحاحاً مع ثورة وتجربة شبابية جديدة مثل التي جاءت بها ثورة ديسمبر وفي الوضع الذي يمر به السودان اليوم..

 

للأسف فإن هذا ليس هو الحال في تعامل جهات كثيرة مع لجان المقاومة. سألتُ مجموعة ثانية غير الأولى أعلاه من قيادات لجان المقاومة في العاصمة الخرطوم عن ما يشاع عن تدخلات مباشرة من أحزاب وجهات سياسية في عمل لجان المقاومة ومواثيقها: هل حقيقة؟ أم إدعاءات؟ أم أنه تأثير وليس تدخلاً، وما إذا كان أيجابياً يُكسب اللجان خبرات أم سلبياً. من بين 40 مشارك أكد 36 هذا التدخل، وقال فقط 4 منهم إنه تأثير غير مباشر. وأجابت مجموعة ثالثة من هذه القيادات عن أسباب التراجع الحالي في حجم المشاركة في فعاليات مناهضة الانقلاب، فأعطت على رأس هذه الأسباب: تدخل الأحزاب في عمل اللجان ومواثيقها والصراع السياسي حولها، بما في ذلك النقاش حول الاتفاق الإطاري، وعزا أولئك القادة حالة الانهاك التي تمر بها اللجان أنها جراء هذا الصراع السياسي حولها (من بين الأسباب الأخرى: الأزمة الاقتصادية، عدم وضوح تعريف اللجان لذلتها، السقف العالي لشعارات، نقص الخبرة السياسية، غياب امواجعات الدورية والتخطيط.. )

 

يضرب البعض المثل بحركة الخضر في اوروبا بعد ثورة الشباب فيها، عقد ستينات القرن الماضي. وبحكم صلتي الشخصية بتطورات تلك الحركة (كنت مرشحاً في قائمة الخضر للمجلس الأربعيني في جامعة كاسل لأول مرة يخوضون فيها انتخابات الاتحادات الطلابية في المانيا)، أرى أن التشابه كبير مع اختلاف السياق الحضاري. فقد تبلورت حركة الخضر في شكل مبادرات مدنية قادتها حركة البيئة وشملت حركة النساء والطلاب الاشتراكيين ومناهضة التسلح والتضامن مع حركات التحرر في العالم الثالث، مثلها في ذلك مثل حركة المبادرات المجتمعية في السودان التي صاحبت ثورة ديسمبر أو سبقتها. لكن لم يمض وقت طويل قبل أن تتحول حركة الخضر إلى حركة سياسية ببرنامج سياسي خاضت به انتخابات عامة ووصلت به إلى السلطة في ألمانيا. وذلك لأنهم توصلوا باكراً إلى أنه لا يمكن الاستغناء عن مؤسسات الدولة لإنفاذ السياسات التي ينادون بها، ولا يمكن الاعتماد على الأحزاب الكبيرة القائمة وقتها في تنفيذ ذلك البرنامج، لأنه معبر عن قوى وقيم جديدة تفتقر إليها تلك الأحزاب، وأن إصلاح تلك الأحزاب لتتبنى البرنامج الجديد لأ يمكن أن يحدث إلا بضغط يهدد بسحب قواعد تلك الأحزاب عنها، ناتج عن البرنامج والنموذج الجديد الذي قدمه الخضر، والذي شمل على مستوى الهيكل أمرأة ورجل معاً في الرئاسة ومبدأ التدوير الدوري للمنصب (rotation) من بين أصلاحات هيكلية وبرامجية أخرى (نجح التهديد فعليا، فتبنى الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي كان يقمع تظاهرات الخضر حول مواقع المفاعلات النووية، برنامج تفكيك هذه المفاعلات لاحقاً، الذي كان يطالب به الخضر ويسجنون بسببه).

 

الأمر ينطبق في تقديري على لجان المقاومة بوصفها طليعة قوى اجتماعية جديدة أفرزتها الثورة، بأن عليها: بناء برنامج سياسي جديد وتقديم نموذج مفارق لما هي عليه الحركة السياسة القائمة، ويتطلب منها ذلك، أولاً إعادة تعريفها للسياسة بحيث تصبح علم بناء الدولة والمجتمع، والتخلص بالتالي من الروح التطهرية التي تتقمصها من السياسة، والإقرار بأن شعارها المطالب بالحرية والسلام والعدالة وما عبرت عنه بلسان الحال في اعتصام القيادة والتظاهرات هو برنامج سياسي يتطلب تنظيماً أو تنظيمات حزبية تستعين بمؤسسات الدولة وأخرى مدنية تستعين بالأدوات المدنية لإنفاذه، وأن طبيعة هذا البرنامج المتمحور حول الحرية والسلام والعدالة يختلف تاريخياً وجوهرياً عن برامج أغلبية الأحزاب السودانية القائمة، مما يتطلب استقلال اللجان عن هذه الأحزاب. وأنها مطالبة بتقديم نموذج سياسي جديد خالي من الأمراض التي أصيبت بها الحركة السياسية وأولها التشرذم والانقسامات، نموذج هيكلي يقوم على البناء القاعدي الديمقراطي وبرنامج يقوم على المعرفة العميقة بقضايا الانتقال والتأسيس في السودان، ونموذج فردي يقوم على نكران الذات والكفاءة المهنية وتقديم مصلحة الوطن على كل شئ آخر.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *