اخبار

أميركا والفلسطينيون ومعضلة مستعصية.. – سما الإخبارية

(1 من 2)
وتستمر المناورة الأميركية، ما بين المواقف الفعلية المؤيدة لسياسات إسرائيل في عدوانها على غزة، وبين تصريحات عبثية مضللة ومتضاربة، موجهة لاحتواء الرأي العام الأميركي والعالمي، ولمنح إسرائيل مزيداً من الوقت لاستكمال عدوانها على الشعب الفلسطيني وقضيته، والتغطية على جرائمها في حرب إبادة جماعية وتهجير قسري في غزة، دمرت القطاع بمدنه الخمس بالكامل، وبات غير صالح للحياة الآدمية، وقتلت وأصابت أكثر من ١٠٠ ألف إنسان، وهجرت وتسببت في معاناة أكثر من مليوني شخص، على مرأى ومسمع العالم، وبدعم أميركي سياسي وعسكري، يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة عدوانها على الفلسطينيين. 
وتواصل الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل وحمايتها، حتى وإن كلفها ذلك التصادم مع تلك المبادئ التي طالما تغنت بحمايتها داخل أراضيها. وأرسل ٢١ عضو مجلس شيوخ رسالة تهديد للمحكمة الجنائية الدولية، مشيرة الى أن الولايات المتحدة ستعاقب المحكمة إن أضرت بإسرائيل، وكانت الولايات المتحدة قد فرضت بالفعل عقوبات على المحكمة في الماضي، بعد أن باشرت التحقيق في جرائم اقترفتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. وتتعامل الولايات المتحدة بقسوة مع أبنائها من طلاب الجامعات الأميركية، الذين خرجوا رافضين لحرب الإبادة الإسرائيلية ودعم بلادهم لها، واتهمتهم بالتهمة التي طالما استخدمت لحماية إسرائيل بغير حق، لوأد تلك الاحتجاجات. فما سر  تلك العلاقات الأميركية الإسرائيلية غير العادية؟ وهل هو دعم بلا حدود؟
 وفي هذه الأثناء تستكمل إسرائيل اجتياح مدينة رفح، رغم التحذيرات المستمرة، ومن كافة الأطراف الدولية الرسمية وغير الرسمية، وبدعم فعلي أميركي. فرغم تصريحاتها المضللة بتأخير إرسال شحنات أسلحة دقيقة لإسرائيل، وضمان إدخال الوقود والمواد الغذائية الأساسية اللازمة لاستمرار حياة الغزيين، سواء عبر معبر رفح أو كرم أبو سالم أو الميناء الجديد، إلا أنها تؤكد على ضرورة هزيمة حركة حماس في رفح في تقاطع تام مع الرواية الإسرائيلية،  وتبرر ذلك بأنها عملية محدودة، رغم عدم حصولها على ضمانات وخطط بتجنب استهداف المدنيين وتوفير مناطق آمنة لهم، قبل هذا الاجتياح، كما طلبت من إسرائيل. وفي حين حملت الولايات المتحدة حركة حماس قبل أيام مسؤولية فشل مفاوضات الهدنة في حال رفضها المبادرة الأخيرة، والتي وافقت عليها حركة حماس، في تطور واضح في موقف الحركة، وبدل عقد مؤتمر صحافي للوسطاء لفضح ذلك التلاعب الإسرائيلي، تجاهلت الولايات المتحدة موافقة الحركة على المبادرة، وتماهت مع ادعاءات إسرائيل.  وكانت  صحيفة الفايننشال تايمز نقلت عن دبلوماسي مطلع: أن الاقتراح الذي وافقت عليه حركة حماس كان مماثلاً لاقتراح أيدته إسرائيل في وقت سابق، كما أكد محمد الهندي نائب الأمين العام لحركة الجهاد أن ذلك المقترح اطلعت عليه إسرائيل من قبل، وأشار كذلك أسامة حمدان، القيادي في حركة حماس، إلى أن النص الذي وافقت عليه الحركة جاء معتَمداً من واشنطن. ذلك التماهي الأميركي الواضح مع عدوان إسرائيل على الفلسطينيين يفسَّر كذلك بتجاهل اقتحام معبر رفح المخالف للاتفاقيات المبرمة مع مصر باشراف دولي، وبمنعها بإصرار من إصدار قرار من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة، الأمر الذي يعني استمرار جرائم الاحتلال بحق الغزيين العزل.
تلتزم الولايات المتحدة بإسرائيل التزاماً جعل البعض يصف إسرائيل بولاية أميركية مقرها الشرق الأوسط، فموقف بايدن من إسرائيل اليوم ليس استثنائياً عن سابقيه، لكن ما السر وراء ذلك الالتزام؟ وهل يمكن للموقف الأميركي تجاه إسرائيل أن يتبدّل؟ في معادلة شديدة التعقيد تتقاطع فيها عدة عوامل لتفسير ذلك الارتباط الأميركي الفريد والالتزام العميق بإسرائيل، فما بين الشواهد التاريخية المرتبطة بمعتقدات دينية، وتقاطعها بعد ذلك بأهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية الخارجية، الأمر الذي سمح بتغلغل تلك العلاقة سياسياً على المستوى الداخلي بدعم الإنجيليين لإسرائيل، وفتح للوبي الصهيوني الأبواب للعب دور مركزي في صميم الحياة الأميركية بمختلف أشكالها، فأصبحت العلاقة تدريجياً مترابطة بشكل شديد التعقيد. 
تاريخياً، ظهر التأييد البروتستانتي الديني لليهود قبل ظهور أميركا، وتأثر الأميركيون الأوائل، بمفاهيم دينية تكن مكانة جليلة لليهود، فانعكست بقواعد دستورية وتصريحات قيادات أميركية تاريخية، اذ إن جل الأميركيين يتبعون المذهب البروتستانتي. فأحد الشعارات الأولية المقترحة لأميركا عند نشأتها، تأثرت برواية تتعلق باليهود، واعتبرت اللغة العبرية أساسية في الولايات المتحدة عند ظهورها، وكانت إجادتها شرطاً للاستمرار الدراسة في جامعات عريقة كجامعة هارفرد، وحتى اليوم يمكنك ملاحظة شعارات جامعات كبرى وكليّات عريقة مكتوبة بلغة عبرية، كجامعة ييل على سبيل المثال.
إستراتيجياً، تبنت الولايات المتحدة إسرائيل منذ نشأتها، وكانت دعمت بقوة وعد بلفور، على المستوى التنفيذي الرئاسي والتشريعي، وحتى قبل صدور وعد بلفور، دعت قيادات مهمة أميركية على رأسها رئيس مجلس النواب ورئيس المحكمة العليا لعقد مؤتمر دولي، للنظر في مطالبة اليهود بفلسطين، وكان ذلك قبل تشكيل هرتسل للمؤتمر الصهيوني العالمي الأول بست سنوات. في حرب عام 1967، هزمت إسرائيل عدداً من الدول العربية، اثنتان منهما حلفاء للاتحاد السوفييتي، في مدة قياسية، ودون مساعدة كبيرة من الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت متورطة في حرب فيتنام، فأحدث ذلك تحولاً مهماً في نظرة واشنطن لإسرائيل، باتخاذها حليفاً ثابتاً لمقاومة النفوذ السوفييتي، في ظل سياسة الاحتواء في منطقة غرب آسيا، حيث أولت الولايات المتحدة أهمية قصوى لهذه المنطقة، لمكانتها الجغرافية الاستراتيجية والنفطية. وبالفعل ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل في حرب عام ١٩٧٣، ولم تسمح بهزيمتها. وفتح ذلك التطور المهم للإنجيليين لتدعيم سياسة حماية إسرائيل، وسمح ذلك لتطور دور ومكانة اللوبي الصهيوني داخلياً في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي تطور تدريجياً بشكل ملحوظ. 
فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حافظت الولايات المتحدة على علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، بالإضافة لحلفاء آخرين، في منطقة تُعدُّ شديدة الأهمية لها. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتورّط الولايات المتحدة في الحروب على الارهاب، زادت أهمية الارتباط الاستراتيجي الامني والعسكري الأميركي باسرائيل. وانعكس تطور مكانة وتأثير إسرائيل داخلياً عبر الانجيليين واللوبي الصهيوني، وتطور المكانة الاستراتيجية لإسرائيل على المستوى الخارجي على تأثير إسرائيل في صميم القرار الأميركي السيادي. فكانت الإدارة الأميركية في الماضي تضغط على الحكومات الإسرائيلية لإجبارها على اتباع سياسة تنسجم مع توجهاتها، كما حدث في توقيع اتفاقية السلام مع مصر في العام ١٩٧٨، أو في الانخراط في مفاوضات مدريد في العام 1991، على غير رغبتها. إلا أنها اليوم تكاد لا تقوى على مقاومة طموحات إسرائيل، حتى وإن تعارضت مع مصالحها. وقد يكون خير دليل على ذلك موقف نتنياهو الذي تحدى إدارة أوباما، التي طالبت إسرائيل بوقف الاستيطان، فتحدى نتنياهو أوباما من داخل الكونغرس وأحرجه، وتراجع بعد ذلك أوباما عن طلبه. وعندما ذهب اوباما لتوقيع اتفاق مع إيران، على غير الرغبة الإسرائيلية، حاربه نتنياهو ووقف بقوة ضد الاتفاق مع إيران، وسحب ترامب بعد ذلك أي التزام اتفاقي مع إيران. وقد يفسر الموقف المحرج لإدارة بايدن اليوم في حرب غزة، دليلاً اضافياً على طبيعة هذه العلاقة المعقدة. 
إن الولايات المتحدة بمواصلة إصرارها على معاداة الفلسطينيين، بالاشتراك في جريمة حرمانهم من حقهم الطبيعي بالتحرر من الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير، تتحمل مسؤولية المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، وستبقى وصمة عار تهز مكانتها وقيمها، تماماً كما تحملت بريطانيا من قبل مسؤولية إصدار وعد بلفور، وتمكين اليهود في فلسطين، في انتهاك قانوني وأخلاقي لدورها كدولة انتداب. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *