اخبار المغرب

التفكير النقدي .. وسيلة ناجعة للحد من الهدر المدرسي

Critical thinking: An efficient way to reduce school dropouts

ورد عن الدكتورة إليانور روش الأمريكية (Dr. Eleanor Rosch)، وهي عالمة نفس تربوية بارزة معروفة بعملها الرائد في التصنيف ونظرية النموذج الأولي، أن “التفكير النقدي (Critical Thinking) ليس مجموعة مهارات معزولة، بل هو الإطار الأساسي الذي يُبنى عليه كل التعلم الحقيقي. فهو يمكّن الأفراد من طرح الأسئلة وتحليلها وتوليفها، وتعزيز فهم أعمق للعالم وتمكين اكتشاف حلول مبتكرة لتحديات معقدة “. ومما لا شك فيه أن أي نظام تربوي أو تعليمي لا يكون ناجحاً إلا إذا ألمَّ بما يحتاجه المتعلم في مساره التعليمي.

وفي هذا الصدد، فقد خضع نظام التعليم المغربي في السنوات الأخيرة لعدة تغييرات تحويلية تهدف إلى مواءمته مع الاتجاهات التربوية العالمية. من بين هذه التغييرات، اعتماد النظام البيداغوجي الجديد في التعليم العالي الذي يركز على بعض المهارات الناعمة (Soft Skills) مثل التواصل (Communication) واللغات الأجنبية، والتي ترتكز بشكل مباشر أو غير مباشر بتكامل التفكير النقدي، وهي مهارة اكتسبت أهمية كبيرة في التعليم الحديث.

سوف نطرح من خلال هذه المقالة أهمية دمج التفكير النقدي في نظام التعليم، واستخلاص رؤى مجموعة من المفكرين التربويين المشهورين مثل جون ديوي وماريا مونتيسوري، بينما نستكشف أيضًا وجهات نظر العلماء المسلمين والعرب في هذا المضمار. علاوة على ذلك، سوف نحاول أن نعرج على إمكانات التفكير النقدي للتقليل أو الحد من ظاهرة الهدر المدرسي ودمجها في المشهد التربوي المتطور للتعليم المغربي بصفة عامة.

التفكير النقدي من أفواه علماء التربية:

إن قضية دمج التفكير النقدي في التعليم تمتد جذورها وتستمد قوتها من الأفكار التقدمية للمفكرين التربويين البارزين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكد جون ديوي ، رائد التعليم التقدمي، على أهمية التعلم النشط وحل المشكلات. كما أن إيمانه بأن التعليم يجب أن يركز على تطوير المهارات العملية والتعلم التجريبي يتوافق مع جوهر التفكير النقدي. وتتجسد فلسفة ديوي بشكل مناسب في إحدى مقولاته الشهيرة: “التعليم ليس إعدادًا للحياة؛ التعليم هو الحياة نفسها” (ديوي، 1897). أما ماريا مونتيسوري، المعروفة بنهجها المبتكر في تعليم الطفولة المبكرة، فقد دافعت عن التعلم الذي يركز على الطفل والخبرة العملية، كما أنها عززت أساليبها بطبيعتها التي تصبو إلى الفضول والاستقلالية والتفكير المنطقي، وهي سمات مرادفة للتفكير النقدي. وللإشارة فإن منظور مُونْتِيسُورِي يتماشى مع تأكيدها على أن “التعليم هو عملية طبيعية يقوم بها الطفل ولا يتم اكتسابها من خلال الاستماع إلى الكلمات ولكن من خلال الخبرات في البيئة” (مُونْتِيسُورِي، 1967). كما يؤكد نهج ماريا مونتيسوري في التعليم على أهمية “المشاركة النشطة” في التعلم. فقد لاحظت ذات مرة أن “التعليم عملية طبيعية يقوم بها الطفل ولا يتم اكتسابها من خلال الاستماع إلى الكلمات ولكن من خلال “الخبرات في البيئة.” يتماشى تركيز مونتيسوري على التعلم التجريبي بشكل وثيق مع جوهر التفكير النقدي. فعندما يستكشف الطلاب بيئتهم بنشاط ويتعاملون مع الأشياء، فإنهم يشاركون في عملية تعكس المشاركة المعرفية الفعلية المطلوبة للتفكير النقدي. كما أن تشجيع الطلاب على السؤال والتجربة والاستكشاف، حسب رأيها، يعزز قدراتهم المعرفية، مما يجعل التعلم رحلة ديناميكية ومُرضية.

ولإثراء حوارنا هنا حول هذا الموضوع من منظور متنوع، لا ينبغي إغفال مساهمات العلماء المسلمين والعرب أيضاً في هذا المضمار حيث أشاروا إلى أن “التفكير النقدي هو جسر يربط المفاهيم المجردة بالواقع الملموس.” فعلى سبيل المثال، أكد ابن سينا، الفيلسوف المسلم البارز والمثقف من العصر الذهبي الإسلامي، على أهمية التفكير المستقل (الاجتهاد) في إطار التعليم الإسلامي. لقد أدرك العلماء المسلمون والعرب منذ فترة طويلة قيمة المشاركة النشطة والاستفسار في التعليم. كتب الغزالي، وهو فيلسوف إسلامي مؤثر، بإسهاب عن أهمية الفضول والتأمل. قال في مقال مشهور: “المعرفة بدون عمل تبذير والعمل بدون علم حماقة”. هذه الحكمة تلخص العلاقة التكافلية بين التفكير النقدي والتطبيق العملي. تؤكد رؤى الغزالي على حقيقة أن التفكير النقدي لا يقتصر على التمارين الفكرية، بل يجب أن يؤدي إلى اتخاذ إجراءات وقرارات مستنيرة. كما سلط الغزالي الضوء على أهمية الاستجواب والتأمل (التفكر) لتطوير فهم أعمق للمعرفة. وللإشارة فإن هذه التأثيرات التاريخية تعزز توافق التفكير النقدي مع المبادئ التربوية الإسلامية كما هو مدون في العديد من المؤلفات والبحوث التربوية.

وبالرجوع إلى المغرب، فإننا نرى بأن ما سبقت إليه الإشارة حول موضوع التفكير النقدي، يتماشى مع التحول الأخير نحو نهج أكثر تركيزًا على الطالب وقائمًا على الكفاءة مع المبادئ التي دعا إليها ديوي ومونتيسوري وعلماء الدين الإسلامي. يؤكد هذا التحول نحو ادماج التفكير النقدي في المنظومة التربوية والتعليمية في التعليم العالي أولاً (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) باعتباره مهارة أساسية لإعداد الطلاب لتحديات العالم الحديث، خطوة عقلانية وجيدة شريطة تنزيلها على أرض الواقع وفق ما تنص عليه معايير الجودة الشاملة المعمول بها عالمياً.

تعزيز مشاركة الطلاب والتقليل أو الحد من الهدر المدرسي:

يعتبر التفكير النقدي، حسب رأي العديد من علماء التربية، وكما أشرنا إليه آنفاً، حافزًا لإشراك الطلاب في عملية التعلم (Learning Process). فعندما يتم تشجيع الطلاب على التفكير النقدي، فإنهم، وبدون شك، يطورون اهتمامًا حقيقيًا بدراساتهم. كما يؤدي تطبيق التفكير النقدي في الفصول الدراسية إلى تحول من التركيز على “الحفظ عن ظهر قلب” إلى “الاستكشاف والتحليل النشط”. وبهذا يعتقد ابن سينا أن التعليم يجب أن يتجاوز الحفظ عن ظهر قلب وأن يلهم الطلاب للتحليل والتساؤل واستخلاص النتائج بناءً على الأدلة. وكما هو ملاحظ، تتوافق آراء ابن سينا بسلاسة مع أهداف دمج نظام التعليم المغربي في التفكير النقدي، حيث يسعى إلى تمكين الطلاب من التفكير بشكل مستقل ونقدي حول العالم من حولهم. ومما لا شك فيه أيضاً، فإن هذا التحول يؤدي إلى زيادة الحافز والوصول إلى مستوى أعلى من المشاركة، مما يؤدي في النهاية إلى تقليل احتمالية تسرب الطلاب. وتشير بعض الدراسات إلى أن الطلاب الذين يمكنهم تطبيق مهارات التفكير النقدي في مواقف العالم الحقيقي، يشعرون بعلاقة أقوى بين دراساتهم وتطلعاتهم المستقبلية، مما يؤدي إلى انخفاض معدل التسرب. علاوة على ذلك، فإن التفكير النقدي يغذي المهارات الحياتية الأساسية مثل حل المشكلات والتواصل الفعال والقدرة على التكيف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المهارات لا تعمل على تمكين الطلاب أكاديمياً فحسب، بل تُعدّهم أيضاً للمتطلبات الديناميكية للقوى العاملة العالمية أو المطلوبة في سوق العمل المحلي أو الدولي. وبذلك يمكن القول بأن من خلال تعزيز هذه المهارات، يمكن لنظام التعليم المغربي أن يخلق أفرادًا أكثر تنوعاً وقدرة على الصمود، وأقل عرضة للاستسلام للتحديات والشكوك، وبالتالي التقليل من معدلات التسرب المدرسي.

دمج التفكير النقدي في نظام التعليم المغربي:

ومن جهة أخرى، فإن دمج التفكير النقدي في نظام التعليم المغربي، وإذا ما تم تطبيقه منذ المراحل الأولية للتعليم، ليس مجرد تحول تربوي، بل إنه نهج تحويلي يحمل القدرة على إحداث ثورة في الطريقة التي يدرك بها الطلاب التعلم. وفي السياق المغربي هذا، يمكن لدمج التفكير النقدي أن يعالج بشكل مباشر قضية المتسربين من المدارس وهو مصدر قلق ابتليت به أنظمة التعليم على مستوى العالم. سلطت دراسة أجراها الباحث بيتر أوكي بوكولا (Peter Okebukola،2017) الباحث والتربوي النيجيري المعروف، الضوء على أن المشاركة النشطة في التعلم، كما يعززها التفكير النقدي، تؤدي إلى ارتفاع معدلات الاحتفاظ. عندما يجد الطلاب المعنى والأهمية في دراستهم، فمن المرجح أن يثابروا خلال التحديات والنكسات، مما يقلل من احتمالية الانقطاع عن الدراسة. علاوة على ذلك، يزود التفكير النقدي الطلاب بمهارات حل المشكلات، مما يسمح لهم بمعالجة العقبات بمرونة بدلاً من الاستسلام لها.

ومما لا شك فيه، فإنه من خلال تشجيع الطلاب على التفكير النقدي، يمكن للمعلمين خلق بيئة تعزز المشاركة العميقة والدوافع الجوهرية مما يثري النقاش والتواصل داخل الفصل. خذ، على سبيل المثال، سيناريو فصل التاريخ الذي يناقش أسباب حدث تاريخي ما. ففي الفصل الدراسي التقليدي، قد يمتص الطلاب بشكل سلبي المعلومات من الكتب المدرسية والمحاضرات. وعلى عكس ذلك، نجد بأن نفس الدرس إذا ما ألقي في فصل يعتمد على منهج وبيئة تركز على التفكير النقدي، فسنجد بأن المعلم أو المحاضر يطلب من الطلاب تحليل وجهات نظر مختلفة وتقييم الأدلة وبناء حجج منطقية.

هذا التحول من الاستقبال السلبي الجامد إلى المشاركة النشطة الحية تم التطرق إليه بشكل جميل من قبل جون ديوي، الذي أكد، كما قلنا سابقاً أن “التعليم ليس إعدادًا للحياة؛ التعليم هو الحياة نفسها”. تؤكد فلسفة ديوي على فكرة أن التعليم يجب أن يكون متماشياً ومتشابكًا مع تجارب الحياة ويجب أن يعكس عمليات التفكير المطلوبة للتغلب على تحديات العالم الحقيقي. يعكس دمج التفكير النقدي في منظومة التربية والتعليم صدى هذا الشعور ، لأنه يجبر الطلاب على التعامل مع الأفكار المعقدة، وموازنة الأدلة، وتجميع المعلومات وهي مهارات تتجاوز الفصل الدراسي وتمتد إلى مجال حل المشكلات في العالم الأوسع.

خلاصة:

تشير بعض المقولات مثل “العقل المنخرط هو عقل مرن ومستعد للتغلب على التحديات” على سبيل المثال، بأنه لا مناص من إدماج التفكير النقدي في جميع مراحل التربية والتعليم. هذه المشاركة النشطة في عملية التعلم تعزز شعورهم بالملكية والإنجاز، مما يؤدي في النهاية إلى ارتباط أقوى بدراساتهم. وردد عبد الكافي (2019) هذا الشعور، حيث أشار إلى أن الطلاب الذين يرون ارتباطًا شخصيًا بتعلمهم هم أكثر عرضة للبقاء مسجلين ومتابعة التعليم العالي. إضافة إلى ذلك، فمن خلال دمج التفكير النقدي في نظام التعليم المغربي، يمكن للمعلمين سد الفجوة بين المعرفة النظرية وتطبيقها العملي. وهذا لا يثري تجربة التعلم فحسب، بل يمكّن الطلاب أيضًا من أن يصبحوا مشاركين نشطين في تعليمهم، وهذا في حد ذاته عامل رئيسي في تقليل معدلات التسرب من الدراسة وتنشئة جيل من المتعلمين مدى الحياة، قادرين على خوض جميع دروب الحياة ومناقشة المواضيع بشكل يعكس مستواهم الثقافي العالي.

ومن جهة أخرى، فإن دمج التفكير النقدي في نظام التعليم المغربي هو مسعى تحويلي يتجاوز المعايير التربوية التقليدية. هذا التحول هو بدون شك (وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة) مستوحى من رؤى مثل ديوي ومونتيسوري وحكمة العلماء المسلمين والعرب، كما يحمل هذا التكامل وعدًا بتشجيع المتعلمين المشاركين وتقليل التسرب أو الهدر المدرسي. إن التحول نحو نظام تعليمي حديث وشامل يعم جميع المراحل يعطي وبدون شك الأولوية للتفكير النقدي، سوف يكون له صدى على جميع الأصعدة. هذا ما أكد عليه العديد من الباحثين المغاربة وعززته رؤى علماء التربية السابقون مثل ما أكدت عليه مونتيسوري حيث قالت: “إن أعظم علامة على نجاح المعلم هي أن يكون قادرًا على القول،” يعمل الأطفال الآن كما لو أنني غير موجود “.” هذا الشعور يدل على تمكين الطلاب كمفكرين مستقلين وقادرين على حل المشكلات بمفردهم.

وأخيراً يتبين لنا أن تأثير التفكير النقدي يمتد إلى ما هو أبعد من الفصل الدراسي، ويمتد تأثيره إلى جوانب مختلفة من حياة الطلاب والمساعي المستقبلية. مع استمرار تطور نظام التعليم المغربي، يقف تكامل التفكير النقدي كمنارة توجه الطريق نحو مستقبل مفعم بالتمكين والمستنير. كما يتبين لنا أيضاً أنه من خلال دمج التفكير النقدي في نسيج جميع مراحل التعليم، يمهد هذا للمغرب الطريق لعصر تعليمي حديث وزاهر وأكثر إشراقًا، حيث لا يكون الطالب فيه مجرد متلقن للمعرفة، بل مشارك فعلي نشط في نموه الفكري. تعليماً يراعي قدرات الطفل الذهنية والجسدية ويراعي ميوله الروحي ومبادئه الدينية وروابطه الأسرية ويحافظ على موروث أجداده الثقافي الضارب في عمق التاريخ، وينمي فيه حسه بالمواطنة الحقة والاعتزاز بموروثه الفكري والأدبي والعقائدي واللغوي وعاداته وتقاليده الأصيلة، كما يؤهله من خلال اكتساب مهارات وكفايات تتماشى مع عالم التكنولوجيا الحديثة ومتطلبات سوق الشغل، مع إعطاء أولوية خاصة للعلوم الإنسانية والعلوم الشرعية التي هي عصب الحياة الفكرية وموردها.

والله ولي التوفيق،،،

(*) كاتب وباحث في مجال التربية والثقافة

أحد مؤسسي منصة 3B Golden Gate لتعليم اللفة الإنجليزية عن بعد

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *