اخبار السودان

«فاطمة أونور».. «قابلة» قُبالة الفقر والجهل واختلال الأولويات بشرق السودان

بوقتٍ ينخرط معظم قادة شرق السودان في صراعات محورها القبيلة أو تحقيق مكاسب سلطوية مستخدمين كل الوسائل بما في ذلك الحرب؛ تنخرط «فاطمة محمود أونور» في أنشطة تستهدف جلب السلامة والسلام للأمهات الحوامل، في استعادة حية لحيوات أبطال رواية الحرب والسلام، لكن هذه المرة على يد قابلة محلية تبحث عن الإنسان وسط إقليم مضطرب يعاني من ويلات الصراع، وليس على لسان العظيم تولستوي.  

التغيير: أمل محمد الحسن

في بيئة (غير صديقة) للنساء، تكثر وفيات الحوامل، لأسباب كثيرة على رأسها زواج الطفلات، وانتشار الختان الفرعوني، مع تردي كبير في الأوضاع الاقتصادية يجعل النساء يصبن بأمراض فقر الدم وسوء التغذية، هذا ما نقلته لـ «التغيير» القابلة «فاطمة محمود أونور» من قرية «تلكوك» شرقي السودان.

مشاهدة الموت

“لم تتقدم لأكثر من خطوة أو خطوتين، قبل أن تقع على بطنها وتموت هي وجنينها” هذه إحدى حوادث الموت التي كانت فاطمة شاهدة عليها، ولم تتمكن من إزاحتها من خيالها.

قالت لـ «التغيير» إن هذه السيدة وصلت إلى مستشفى تلكوك شرقيِّ مدينة كسلا، عاصمة ولاية كسلا، «حوالي ساعتين بالسيارة» وهي في حالة وضوع من قرية «حسنيت» الطرفية، وعندما حاولت الدخول إلى المستشفى لم تتقدم لأكثر من خطوتين قبل أن تسقط على بطنها وتنتقل هي وجنينها إلى الدار الآخرة.

قصة هذه السيدة ليست هي الوحيدة، هناك كثير من الحوادث المتكررة التي تصل إلى «مستشفى تلكوك الصغير» من القرى المحيطة، تذكر منها القابلة فاطمة قصة سيدة وصلت محمولة على متن عربة «لوري» من منطقة «تاماي»، ذهبت فاطمة لتراها هناك لتقرر هل تقوم بتوليدها في تلكوك أم تقوم بتحويلها للمستشفى السعودي بكسلا.

تحكي: “عندما صعدت للوري وجدت عينيها بيضاء ولسانها أبيض قبل أن تكمل شكواها كانت قد ماتت”. وتابعت “كانت تحاول أن تخبر القابلة عن الآلام التي تشعر بها، لكنها قبل أن تكمل حديثها فارقت الحياة وأخذت جنينها معها.

وبحسرة بادية، وتهدج يفيض بالعبرات في صوتها أكملت فاطمة: كانت صغيرة جدا في العمر.

لكن أكثر القصص التي آلمتها فاطمة، فتخص قصة طفلة صغيرة، جاءت لتضع جنينها في حالة متأخرة جدا، وقامت بتحويلها للمستشفى الكبير بالمدينة، لكنها علمت لاحقا أنها توفيت هي وجنينها كذلك.

على الرغم من أن فاطمة لم تتمكن من تحديد عمر الفتاة، إلا أنها كانت صغيرة جداً، للدرجة التي تستطيع فاطمة أن تقدر معها عمر الأم الطفلة بعشر سنوات فقط.

وتقول القابلة: “الصغيرات يعانين من حالات نفسية صعبة وفي أوساطهن تسجل أكبر حالات وفيات بالمنطقة”.

عادات «مُهلكة»

زواج الصغيرات من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات خلال فترة الحمل أو أثناء الوضوع، وفق القابلة فاطمة التي عملت لأكثر من 12 عام في توليد النساء بمنطقتها، ومن ثم يجئ انتشار ختان الإناث في المناطق الطرفية «تطلق عليها فاطمة مناطق الجبال».

العادات والتقاليد هناك تفرض على النساء الزواج في عمر مبكر، وتستمر عادة الختان، على الرغم من عمل فاطمة ورفيقاتها من القابلات المدربات على محاربتها، إلى جانب انعدام وجود مدارس خاصة بالبنات.

“لا توجد مدرسة ابتدائية حتى للبنات، أعلم بناتي في الخلوة مثلما فعلت أنا في صغري”.

الزواج المبكر والختان والجهل والفقر اسباب يسببون وفيات الحوامل بقرى الشرق

تشتكي فاطمة من المعاملة القاسية التي تجدها بنات جنسها في منطقتها، والمناطق المحيطة، وتقلق على مصير بنتيها. وفي المقابل يجد الأبناء الذكور فرصاً جيدة للتعليم، فهناك مدرسة ابتدائية وأخرى للثانوي، وألحقت فاطمة أبنها البكر بمدرسة ثانوية في كسلا.

“الفتيات يتم تزويجهن من عمر 10 أو 11 عاماً، ولا تتم مشاورتهن حتى” هذا ما أكدته القابلة فاطمة وهي تتحدث بمرارة عن واقع النساء في منطقتها، وتردف: “الرجال يضعون النساء تحت أقدامهم، ولا ينظرون إليهن على أنهن شيء له قيمة! وممنوع عليهن الخروج أو الدراسة ولا يسمح لهن حتى بالتقدم خطوة نحن باب المنزل الخارجي”.

فرصة نادرة

استطاعت فاطمة أن تنتقل بمراحل جديدة في حياتها وتتميز عن جاراتها ورصيفاتها في المنطقة، فالسيدة صاحبة الـ28 ربيعاً، والأم لأربعة أطفال وجدت فرصة في العام 2010 للتدريب على مهنة القبالة عبر فرصة قدمها العون الإيطالي للنساء، ومنح أسرهن مقابل ذلك مواداً تموينية وملابس وحوافز مالية لتشجيعهن على السماح للفتيات بتلقي التدريب.

قبل تدريب فاطمة ورفيقاتها وهن (30) قابلة، كانت هناك قابلة واحدة فقط في جميع قطاعات المنطقة الـ(10)، لم تحصل على أي نوع من التدريب ولا تعرف الحالات المتأخرة أو الواجب نقلها للمشافي.

عمل فاطمة ورفيقاتها في مهنة القبالة بالمنطقة خفض نسبة الوفيات، حيث تحاول «فاطمة» من جهة ثانية استغلال جميع المناسبات المتاحة لنشر الوعي والثقافة حول موضوع الزواج المبكر والختان.

تقول: “أتحدث في مناسبات الزواج، ومع المرضى الذين يصلون إلينا في المستشفى”.

فاطمة أونور: “الرجال يضعون النساء تحت أقدامهم، ولا ينظرون إليهن على أنهن شيء له قيمة”

ورغم إمكانيات المستشفى المحلي المتواضعة، نجده يستوعب النساء من جميع مناطق تلكوك والكثير جداً من القرى التي حولها، فيما حالات قليلة يمكن أن يتم التعامل معها داخل المركز، نسبة لأن معظم الحالات الواردة من الأطراف تكون في مراحل متأخرة جداً.

لا تقوم الحامل بالمتابعة مع طبيب أو حتى قابلة طوال شهور الحمل، وفق القابلة فاطمة، كما لا يقمن بأخذ جرعات الدواء الضرورية مثل (الفوليد أسيد الذي يحول دون تشوه الأجنة، والفيتامينات التي تساعد على نمو الأجنة) مع معاناتهن النساء في ذات الوقت من ظروف اقتصادية ضاغطة وسوء تغذية ما ينتج عن إصابات بأمراض فقر الدم.

ظروف اقتصادية طاحنة

“البيئة جافة وجبلية، حارة جداً في الصيف، وعالية البرودة كأنها ثلوج في الشتاء”، حاولت فاطمة أن ترسم صورة للمنطقة خلال حديثها مع «التغيير» عبر الهاتف، وأتمت: “المنطقة حجرية ولا تصلح للزراعة”.

وعن المهن التي يمتهنها أهالي المنطقة، قالت فاطمة إنه ليس لديهم الكثير ليفعلوه.. البعض يعمل في الرعي، والبعض الآخر يعمل في (تناكر المياه)، أو يبيعون القليل من المستلزمات في “طبالي”، كما لا توجد توصيلات لخطوط المياه، مما يضطر النساء للذهاب إلى الآبار الطرفية لجلب المياه.

الأوضاع الاقتصادية الخانقة، تمنع النساء الحوامل من الوصول للمستشفيات في وقت مبكر، وفي نهاية أيام الحمل يضطرون إلى نقلهن على ظهور الدواب (الحمير والنياق) للمستشفى الصغير في تلكوك، والذي يحتوي على معمل وغرفة للولادة وعنبر وحيد، أما الكادر الطبي الذي يدير العمل فعلى رأسه مساعد طبي واحد، بجانب 18 قابلة.

نقل الخبرات

لم تتوقف إسهامات القابلة فاطمة، ورصيفاتها في حصر نشاطهن بالمنطقة، بما في ذلك عمليات التثقيف الصحي؛ ولكنهن قمن بعمل تدريب لفتيات أخريات ينحدرن من قرى مختلفة، للعمل في مهنة القبالة.

وفي هذه العملية من نقل وتمرير الخبرات، لعبت فيها فاطمة دور المنسق بمنطقة تلكوك، بمعاونة بعض الجهات الراعية من كسلا، مع بذل الوسع في تدريب فتيات من خارج المنطقة لسد النقص في الأطراف.

وتلخص فاطمة ذلك الأمر بالقول: “لا نملك سيارات تأخذنا إلى المناطق البعيدة لمراجعة النساء، وظروفهن لا تسمح لهن بالحضور، أفضل طريقة هي تدريب قابلة لكل منطقة”.

وتضيف: “قمنا بتخريج 20 فتاة ضمن جهود لتوفير قابلات بالقرى المحيطة لإنقاذ حياة النساء، وتنشر التثقيف الصحي”.

ووفقاً لفاطمة قدمت الفتيات من قرى: (همشكوريب الصغيرة، ومامان كمتي قرداب، كويريب، قدلاب، ابوبلل، توقان جبراييت، توقان، منداويت، تهداي ادرديب، بليت ميجيت، تهداي، مسود، مامان بينوك، عنقاتيب، تشيداب، قدمايب تقرياي، قدمايب الآبار).

إحصاءات

وكشفت تقارير أممية نشرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) عن وفاة امرأة كل دقيقتين أثناء الحمل أو الولادة.

ويُظهر التقرير الذي نشر في 23 فبراير الماضي، ويتتبّع وفيات الأمهات على الصُعُد الوطنية، والإقليمية، والعالمية خلال عقدين من الزمان في الفترة من 2000 2020 أن وفيات الأمهات في نهاية الدراسة  كان 287 ألف حالة وفاة، ما يعني انخفاضاً بسيطاً مقارنة بالعام 2016 الذي شهد أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة حيّز التنفيذ، بوفيات تقدر بـ 309 ألف حالة.

ومع أن التقرير يؤشّر إلى بعض التقدم الجدّي في خفض وفيات الأمهات بين عامي 2000 و2015، إلا أن هذه المكاسب تعثرت بشكل كبير أو حتى ارتدت إلى ما هو أسوأ في بعض المناطق.

وأكد التقرير أن وفيات الأمهات مركّزة بشكل كبير في أفقر أجزاء العالم وفي البلدان المتأثرة بالنزاعات.

وفي 2020، تم رصد 70% من وفيات الأمهات بمنطقة أفريقيا جنوب الصحراء (تشمل السودان)، ضمن تسعة بلدان تواجه أزمات إنسانية حادة، ووصلت معدلات وفيات الأمّهات لأكثر من ضعف المعدل العالمي (551 وفاة لكل 100 ألف ولادة حيّة، مقارنة بـ 223 عالمياً.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *