اخبار المغرب

غزة أسقطت أقنعة الغرب الذي انبهرنا بحداثته الزائفة (حوار)

قال الأنثربولوجي المغربي، عياد أبلال، “إن السياق الغزاوي الفلسطيني كشف عني ضبابية المشهد، أو لنقل أخرجني من صدمة الحداثة كما تلقيتها في تعليمي الجامعي، وكما مارستها في كتاباتي وفي محاضراتي”.

ويذهب أبلال إلى أن طوفان الأقصى كشف للعالم الحر خديعة الحداثة الغربية، مشيرا إلى أن أساس ما يجري في غزة، فكري محض، وإن كان هذا الأساس حسب تعبيره يتلون بألوان السياقات المختلفة من تورا بورا، وأبو غريب، وكوانتانامو إلى غزة .

إن المطلوب اليوم، وفق ما أورده أبلال، في حوار مع جريدة “العمق”، هو “تفكيك أسس الفلسفة الغربية، وعلى رأسها مفاهيم محورية من قبيل العقل، المركزية الغربية، الحرية، القانون، الأخلاق، بتوجيه النقد للفصل الذي شكل أس النظام المعرفي الغربي”.

وأرجع المتحدث ما قال إنه عطب في الانبهار بالغرب إلى درجة الاغتراب والاستلاب، إلى “كوننا بتنا لقرون لا نستطيع أن ننظر إلى تراثنا وعقيدتنا بشكل إيجابي ومنصف، ولا أن نعيد بناء نظامنا المعرفي، وهو نظام معرفي إسلامي ينتصر للحق والعدل والحرية والجمال”.

والبديل في نظره “ليس هو إقصاء الفكر الغربي كله، بل هو الخروج من دوائر ومدارات الدهشة والانبهار والاعجاب العاطفي بتوجهات الحداثة وتجلياتها في التحديث والمدينة، أو ما أسميه بالواجهة الزجاجية للحداثة”.

وفيما يلي نص الحوار كاملا:

 

قلتم في تدوينة تمت مشاركتها أزيد من 1000 مرة من قبل رواد  “فيسبوك”، إنك كنت ضحية الحداثة الغربية وفلسفة الأنوار، حيث اكتشفت أن الغرب بأنواره مجرد قناع للوحشية والظلم على ضوء ما يجري في غزة.. كيف تفسر ذلك؟

في الحقيقة إن ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر، من خلال طوفان الأقصى، من همجية إسرائيلية في التقتيل والتنكيل بالمدنيين العزل، ومن انتقال لحاملات الطائرات الأمريكية إلى مياه غزة، وإرسال فرقة كومندو “الدلتا” وخبراء عسكرين أمريكيين دعما لإسرائيل، وطبعا دون أن ننسى الدعم الاستخباراتي والمعلومياتي والعسكري الحربي الأمريكي والدعم الأوروبي، ناهيك عن تعتيم أصوات المنادين بالحرية والاستقلال، أو حتى المنددين بجرائم الحرب التي يقوم به الكيان الإسرائيلي الصهيوني….إلخ من الأحداث والوقائع التي جعلت الغرب ينتصر للعقل الأداتي الحربي، الذي يمعن في إبادة الشعب الفلسطيني الأعزل، كلها أحداث أدخلتني في حالة من الصدمة والذهول، وأنا الذي تشبعت بأفكار الحداثة والغرب، وربما لكون هذا الأخير ابتدع القيم الأنوارية للحداثة وجاد في إيصالها لنا بشتى الطرق، حتى صرنا لا نرى طريقا للتنمية، والتقدم، والحياة، والسعادة إلا باقتفاء طريق الغرب، بل والأكثر من ذلك استطاع أن يجعلنا في حالة تنويم مغناطيسي، فأوروبا الأنوار، وعلى رأسها فرنسا منشأ النهضة الأوروبية وعصر الأنوار، والثورة الثقافية، وبريطانيا الثورة الصناعية والسياسية المدنية، وأمريكا التي تم تسويقها بعد الحرب العالمية الثانية كمناصرة للتحرر والاستقلال مع إنشاء منظمة الأمم المتحدة، كانت منذ الحرب الباردة بين القطبين تبعث بإشارات قوية على زيف شعاراتها، فالحرية، والاخوة، والمساواة، والقانون، والعدال، والتضامن، والإنسانية بشكل عام، تحولت في كوبا، والسودان، والعراق، وسوريا، وليبيا وأفغانستان، والصومال، وفينزويلا…إلخ إلى شعارات لتبرير الاستعمار الجديد وتقتيل وتجويع شعوب المنطقة، وفرنسا الأنوارية حولت هذه الشعارات إلى أداة لتسويغ استغلال إفريقيا في مالي، والنيجر، والسينغال، والكونغو وفي المنطقة المغاربية وعموم إفريقيا بشكل عام.

وهاته القيم التي شكلت لنا قبلة، بل ومعتقداً من خلال الفلسفة الغربية، يكاد يضاهي في مرحلة ما من حياتي معتقداتي الدينية، تحولت إلى رموز وسيلية بتعبير الأنثربولوجيا التأويلية الرمزية لغزو غزة والضفة الغربية، وعموم الأراضي الفلسطينية، حتى صارت القوى الفاعلة الخيرة شراً مطلقاً وهمجية وإرهاب، وتحول الإرهاب إلى قوى فاعلة. هذا القلب في القيم أحالني إلى فريديرك نيتشه حين حاول دون جدوى نقل الفلسفة الغربية من منطق العقل إلى منطق الجسد. وهو منطق بالرغم من نقده اللاذع للحداثة ولفلسفة الأنوار إلا أنه مغلوط في أساسه، فالاحتفاء الغربي بالجسد الأوروبي والغربي وحدهما دون الجسد الفلسطيني دعاني للتفكير في كون أن قيم الحرية، المساواة، العدل، الاخوة، التضامن، الحق، هي مخصوصة بالسياق الغربي الذي تضخمت مركزيته الغربية، حتى صار يرى التقدم والتطور والحضارة من نصيبه، في حين أن باقي العالم، وخاصة العالم العربي الإسلامي مجرد تخلف وبربرية وتوحش، ومن أجل ذلك، تحولت هذه القيم إلى أقنعة تخفي الوجه الحقيقي للغرب، التوحش والبربرية والهمجية، وهي التي بررت الاستعمار سابقا، وإبادة الشعوب الأصلية، وعلى رأسها العنود الحمر في أمريكا.

هذا السياق الغزاوي الفلسطيني كشف عني ضبابية المشهد، أو لنقل أخرجني من صدمة الحداثة كما تلقيتها في تعليمي الجامعي، وكما مارستها في كتاباتي وفي محاضراتي بإعجاب منقطع النظير بالغرب، وكأن غشاوة ما كانت فوق عيني، وحجاب أمام بصري، حتى أن بصيرتي كانت بصيرة أنوار وحداثة مزيفة.

قد يقول قائل: ما يجري في غزة له خلفية سياسية وليست فكرية، فالفكر مظلوم هنا، ما رأيكم؟

تماماً، ما أحاول توضيحه، هو أن الخطاب الإعلامي الغربي عمد إلى تمويه الحقائق وتزييف الأحداث بحجب خلفياتها الحقيقية، وهو ما أوضحه ساموئيل هنتنجتون في كتابه صراع الحضارات، حتى جعل الحضارة العربية الإسلامية في تحالف مع الحضارة الكونفوشيوسية العدو اللدود للغرب، وهو العدو الذي يهدد التقدم والتحضر والرقي والإنسانية متمثلة في الغرب. إن العودة إلى المفكرين المحافظين الجدد في أمريكا وبريطانيا وعموم أوروبا تقودنا نحو استحضار البعد الثقافي برموزه المؤسسة، كبعد قائم فيما هو فكري، ولذلك، فالحرب الإعلامية التي تسند الحرب الهمجية الغربية على غزة والفلسطينيين عموماً تتأسس على مفاهيم وقيم وقد تم تزييفهما، ولينظر المرء في الأوصاف التي تقدم في هذا الخطاب عن إسرائيل وبالتماثل اللا متكافئ عن الفلسطينيين وعن المقاومة الفلسطينية، سيجد حتما الأساس الفكري للحداثة الغربية في بعدها الأنواري، فحماس تمثل الإرهاب والظلامية، وتمثل القمع وقتل الأطفال، في حين تمثل إسرائيل الحرية والنور والديموقراطية والتقدم، وإذا كانت حماس تمثل الظلم، فإسرائيل مسنودة بالغرب تمثل الحق.

وهنا نحن في عمق مدارات ومفاهيم الأنوار والحداثة، فاللوبي الداعم لإسرائيل، لوبي صهيوني تأسس على أساطير وخرافات كما شرح ذلك روجي غارودي، وأخرون كثر، فكيف لهذا الغرب أن يؤمن بعودة المسيح، وبهيكل سليمان، وبالأرض الموعودة، والمسيح الدجال، وما إلى ذلك من مفاهيم أسطورية من المفروض أن الحداثة جاءت على أعقابها وعلى هدمها، فأين سلطة العقل والحكمة والفلسفة فيما تعرفه الصهيونية اليوم في العالم، وأين الحداثة من الإسلاموفوبيا التي تحولت إلا عقيدة جديدة للمجتمعات ما بعد العلمانية بتعبير داستن بورد، إذن فالأساس فكري محض، طبعا يتلون هذا الأساس بألوان السياقات المختلفة من تورا بورا، وأبو غريب، وكوانتانامو إلى غزة ، ولكن طوفان الأقصى كشف للعالم الحر خديعة الحداثة الغربية.

هل الطريقة التي يدرس بها الفكر الغربي في المدارس يتناسب والواقع العملي للغرب نفسه؟ هل نلقي بفكر روسو في سلة المهملات؟

بطريقة أخرى أعيد طرح سؤالك، بشكل يتناغم ابستيمولوجياً مع مآل الحداثة في الغرب نفسه، وفي الشرق أيضا. ليكون السؤال: هل انتهت مدة صلاحية الحداثة الغربية؟
وجواباً على هذا السؤال أقول بأن الغرب نفسه، أي على مستوى الشعوب، انخدع أيضا في الحداثة، وفي الأنوار بعدما عجلت النيوليبرالية بانتهاء مدة صلاحيتها، وهذا ليس قولي، فكثير من فلاسفة الاختلاف، وتيارات ما بعد الحداثة انتهت إلى توجيه نقد لاذع للحداثة، ولكن بالاحتفاظ بالأسس التي قامت عليها. وهنا الخطأ، ولذلك، فتدريس الحداثة في الجامعات العربية والغربية على حد سواء، هو تلقين أكثر منه تدريس، واستضمار أكثر منه تساؤل، وتحنيط جثة أكثر مما هو إنعاش وإحياء. ذلك أن المطلوب اليوم هو تفكيك أسس الفلسفة الغربية، وعلى رأسها مفاهيم محورية من قبيل العقل، المركزية الغربية، الحرية، القانون، الأخلاق، بتوجيه النقد للفصل الذي شكل أس النظام المعرفي الغربي، أي الوضعية، التي تأسست على فصل الدين عن الدولة، أي العلمانية، فصل القانون عن الأخلاق، فصل الجسد عن الروح…إلخ من المفاهيم المركزية للأنوارية الغربية.

ذلك أن هذا الفصل هو أساس تشيء الإنسان وتبضيعه وسلعنته، وهو ما أتقنته التقنية بعدما تم فصلها عن الأخلاق، وهو ما وصل مداه مع النيوليبرالية، وأعطيك مثالا دالا على انتهاء مدة صلاحية الحداثة، أو ما أسميه بانتهاء المدى الوجودي للحداثة، فالفصل بين الأخلاق والقانون، جعل الدولة تتحول إلى جهاز مؤسساتي يحمي القوي، فالقانون يضعه القوي لحماية مصالحه وقيمه ووجوده، وكل تهديد له، يتحول بانقلاب قيمي ارتكاسي إلى تهديد للدولة، وهذا ينطبق على الأفراد كما على الجماعات والدول.

إن فصل القانون عن الأخلاق هو ما أصاب مفهوم الحرية في مقتل، ذلك أن الحرية وفقا لهذا الفصل، هي قدرة القوة على الحكم، أي إرادة القوة، وليس قوة الإرادة، وهنا نحن أمام تشويه للحق، وخاصة حق الجسد في الوجود وفي الحرية، وفصل الدين عن الدولة، جعل الغرب يقتل الله بتعبير نيتشه، وإحلال الإنسان محله. وبذلك، صارت إرادة الإنسان الغربي لا تحدها حدود دنيوية أو أخروية، خاصة في ظل تضخم المدارات الالحادية بفصل الجسد عن الروح، حيث ترتسم ها هنا الأسس التي عليها تم بناء الحداثة، فالنظام المعرفي الغربي، أي الوضعية، جعل العلوم الإنسانية برمتها تدور في مدار العلوم الطبيعية وفق مماثلة جامدة وجافة، وبذلك تضررت ملكات التخييل، والجمال، والفن، بما هي ملكات تغذي لدى الإنسان قيم الحياة. وعليه، لا غرو إن وجدنا أن الغرب يحتفي بالموت، والتقتيل، والتهجير من أجل إرادة قوة عدمية تغذيها الضغينة.

هل البديل هو إقصاء الفكر الغربي كله أم الخروج من دائرة الانبهار به إلى بلورة منهج فكري نقدي مبني على الهوية الخاصة قادرة على الاستفادة من الترسانة الفكرية الغربية لكن من دون الغرق فيها والانبهار بها؟

البديل في نظري ليس هو إقصاء الفكر الغربي كله، بل هو الخروج من دوائر ومدارات الدهشة والانبهار والاعجاب العاطفي بتوجهات الحداثة وتجلياتها في التحديث والمدينة، أو ما أسميه بالواجهة الزجاجية للحداثة. وهذا الخروج يجب أن يتأسس على قاعدة نظرية وعلى نظام ابستيمولوجي وابستيمي جديد، يقوم على أنقاض الوضعية من جهة، والحداثة من جهة أخرى، أي يجب توجيه النقد لكليهما من منظور جنيالوجي ووجودي في الآن نفسه.

أعتقد جازماً أن لدينا في تراثنا العربي الإسلامي سواء في الفلسفة الإسلامية أو علم الكلام، وخاصة مبحث الإلهيات ما يفي بالغرض. لقد شكلت الفلسفة الإسلامية حلقة مهمة من مسلسل الحضارة الغربية، وما قام به العرب والمسلمون منذ بيت الحكمة على عهد المامون من ترجمة التراث الإغريقي واليوناني، لكن مع تجويدهما وتنقيحهما وتلقيحهما عربياً وإسلامياً إلى ابن رشد مهم للغاية، ويتوفر على أسس متينة وجودياً وإلهياً، وهي أسس قامت على الوصل لا الفصل، وعلى الكشف لا الحجب، وعلى النور لا الظلام، حيث إن هذه الفلسفة مسنودة بوصل الدين والدنيا، والإنسان بخالقه هي فلسفة للحياة الممتدة والمرتكزة على قيم إلهية تتجاوز البعد الفاني والمحدود للإنسان. ولذلك، فالعدل، والحرية، والحق في الفلسفة الإسلامية مختلف تماماً عما هو عليه الحال في الفلسفة الغربية. وهنا يمكن الرجوع إلى عدد من المفكرين من أمثال طه عبد الرحمن، وائل حلاق، طلال أسد، عبد الوهاب المسيري، …إلخ

إن منطق الوحدة هو منطق التوحيد في الفلسفة الإسلامية، فلا توحيد دون وحدة الجسد والروح، والعقل والنفس، والعبادات والمعاملات، والحياة والموت، والجنة والنار… وما إلى ذلك، وهذه الوحدة هي الضامنة لانتصار الحق والعدل، طالما أنهما من تجليات الله سبحانه وتعالى، فالحياة في الإسلام يجب أن تكون مصدقة لأسماء الله الحسنى، طالما أن الله هو اللا متناهي في الكبر والعظمة، والإنسان متناه في الصغر والعظمة، وهو ما يمثل بشكل ما ماهية نظرية الجمال في الفلسفة الإسلامية.

إن العطب في انبهارنا بالغرب إلى درجة الاغتراب والاستلاب بتعبير كارل ماركس، هو كوننا بتنا لقرون لا نستطيع أن ننظر إلى تراثنا وعقيدتنا بشكل إيجابي ومنصف، ولا أن نعيد بناء نظامنا المعرفي، وهو نظام معرفي إسلامي ينتصر للحق والعدل والحرية والجمال، ويكفي أن نشير إلى أن الفلسفة الإسلامية استطاعت، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش عصر الظلمات، أن تنشئ نظرية متكاملة في علم الجمال، حيث الحرية، والحق، والعدل، والعبادة، ممارسات جمالية، وحيث الجمال أحد الطرق المؤدية إلى الله.

إنه شكل من أشكال العبادة، حيث العلم مسنوداً بأخلاق الوحدة والتوحيد عبادة، وحيث الإسلام نمط حياة أكثر من مجرد دين، حاولت الحداثة إقصاءه دون جدوى. فهذا النمط من الحياة، أو لنقل النمط الأكثر اكتمالا واحتفاء بالحياة هو ما شكل كُنْهَ الفلسفة الإسلامية مع التوحيدي، والفارابي، وابن سينا، والكندي، وإخوان الصفا، والغزالي، وابن رشد، أعتقد أن إعادة قراءة هذا التراث الفلسفي أصبح ضرورة وجودية أكثر من كونه ضرورة فلسفية أو معرفية بحثة. وما ينطبق على الفلسفة ينطبق على العلوم الإنسانية والاجتماعية، طالما أن الاثنين مرتبطان في سياق الحداثة الغربية، ومحكومين بحدود نظرية ومدى وجودي في ظل نظام الوضعية. خاصة وأن البعد الإنساني والاجتماعي في الفلسفة الإسلامية يتأسس على مرتكز ايماني واعتقادي أثبت الزمن قيمته المعرفية، ولعلنا نجد في القرآن الكريم مداخل كثيرة لإعادة تأسيس علوم إنسانية واجتماعية عربية إسلامية، وهو ما أحاول القيام به في مشروع فكري قادم.

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *