اخبار

عن المعنويات والحالة النفسية في غزة..عبد الغني سلامة

لكي نفهم ونعي طبيعة الحالة النفسية والمعنوية لدى أهلنا في غزة.. تقتضي الأمانة والموضوعية أن تكون مصادرنا مستقاة من أهل غزة أنفسهم، وأن نسمع أصواتهم، ونكف كلياً عن الإسقاطات السياسية ورغبات البعض في تصوير معنويات أهل غزة بناء على رغباتنا وفهمنا نحن المقيمين خارج غزة، خاصة من هم بعيدون عن مصادر الخطر، ولا يرون من الحرب سوى ما يبثه عليهم الإعلام، بانتقائية مدروسة، وبمنهجية ذات أهداف سياسية.
قبل الغوص في متن المقال، سأقتبس بعضاً مما كتبه مقيمون في غزة، وسط النيران، وتحت القصف.
كتب د. مجدي عاشور: «بحر دير البلح كان اليوم الصبح «بِركة»، للأسف ما كان الجوال معي أصوره، كان لونه فيروزي وموجه هادي، وكان في مركب صغير «حسكة» عليها شابين بيجدفوا، مرت دقائق وأنا أتأمل المنظر، لحد ما فجأة علا صوت القصف المدفعي، لم أتحرك من مكاني، ولم يبدِ أحدٌ حولي أي اهتمام؛ من كانوا يسبحون ظلوا يسبحون، ومن كانوا جالسين على الشط ظلوا صافنين في الموج الرائق.. كل الجمال الذي كان يأسرني في زمن سابق في مشهد ساحر كهذا، ما قدر ينسيني الوجوه البائسة الشقيانة إلي شوفتها في الطريق، ولأول مرة حسيت إنه البحر عاجز عن إنه يداويني..  أنا وكل الصافنين في البحر كنا في الحقيقة نتأمل النار إلي شاعلة جوانا».
أما د. محمود عساف، فكتب: «أشد ما أصابني من النزوح هو أني لم أعد أحمل في داخلي أية اعتراضات أو موافقة، لا مُسيّر ولا مُخيّر، كأن كل شيء يُشبه اللاشيء، لا فرق بين التوقف أو الاستمرار، الشعور واللاشعور، خاوٍ من كل مظاهر الحياة وكأنها لا تعنيني، أنتظر النهار ليعود الليل. أشد ما أصابني في هذه الحرب أني فقدت نفسي التي أعرفها، و‏أكثر الطرق مشقة هي التي يقطعها المرء عائداً إلى نفسه».
الباحث توفيق أبو شومر كتب: «أرجو ألا ينزعج كثيرون من رافعي شعارات الوطنية عن بُعد، أو المؤمَّنينَ على سلامتهم من حقيقة مُرة أعايشها كل لحظة في مراكز اللجوء في غزة، وهي أن التهجير من الوطن أصبح أُمنية يحلم بها معظم المنكوبين بضياع بيوتهم وممتلكاتهم ممن يرغبون في إسعاد أبنائهم خارج غزة، والسبب بالتأكيد لا يعود فقط إلى نجاح المؤامرة الإسرائيلية، بل يعود كذلك إلى أن القادة السياسيين لم يبذلوا أدنى جهد لحماية أهلهم، وتوفير أبسط مطلوبات حياتهم، فهم حتى في خطاباتهم لا يكترثون بمآسي أهلهم ولا يذكرون الشهداء والجرحى والجوعى والمشردين! لا تنسَوا أننا بعد أربعة وسبعين يوماً من حرب استئصال فلسطينيي غزة ما زلنا نراهن على انهيار اقتصاد إسرائيل وحكومتها! إسرائيل أيها الكرام ليست دولة، بل مشروع استعماري عالمي يُرمم مؤسسوها اقتصادها في ساعات، أما نحن فلن نجد مَن سيرمم حياً واحداً من أحياء غزة بعد سنوات طويلة!».
وفي فيديو متداول، يظهر فيه شاب وهو يتصل بوالدته هاتفياً، فيقول لها بصوت هادئ: «خالتي فلانة استشهدت هي وأولادها، فتجيبه الأم بصوت أكثر هدوءا: الله يرحمهم، ثم يضيف: وخالتي فلانة تصاوبت، واستشهد فلان وعلان.. فتجيب الأم: الله يرحمهم.. فيضيف الشاب: سأذهب إلى هناك لتفقد الأهل.. فتجيبه الأم: طيب يما، بس دير بالك عحالك.. مع السلامة.. هكذا كانا يتحدثان بكل بساطة، يخبرها عن موت شقيقاتها وأبنائهن بصوت ونبرة وكأنه يتحدث عن نشرة جوية، وتجيبه الأم بهدوء محير!».
ومن المشاهد المثيرة التي نراها على التلفزيون يركض أحدهم حاملاً جثة طفل شبه ممزقة، يصل بوابة المستشفى حيث يتجمع الآلاف.. لا أحد يلتفت إليه، لا أحد يهتم حتى من باب الفضول، كل شخص يكمل ما كان يشتغل عليه، إما صافناً، أو حاملاً هاتفه، أو يتحدث مع جاره..
هنا، لا ألوم، ولا أنتقد، ولا أصدر أحكاماً.. فقط أصور المشاهد كما هي.. أسجل حالة نفسية غير عادية يمر بها شعبنا في غزة، وهي حالة غير مسبوقة.. ربما ظهرت مثيلاتها في أماكن وأزمنة أخرى، بالتأكيد في ظروف حرب مشابهة أقل أو أكثر قسوة وبشاعة. فالحروب وتداعياتها تستدعي بالضرورة نشوء هذه الحالة النفسية.
والحرب العدوانية على غزة لم يسبق لعنفها مثيل، ما يراه أهلنا هناك شيء فظيع، أهوال يصعب تصديقها، ويصعب وصفها، شيء فوق طاقة البشر على التحمل، وقلب الإنسان غير مهيأ لتحمّل كل هذا العبء، وعقله أيضاً غير قادر على استيعابها، فهو مبرمج جينياً على تحييد الخطر وتجاهل ما هو فوق الاحتمال، والنجاة من الحالات المتطرفة سواء كانت سعيدة أم حزينة.  
في الحرب يعتاد الناس على المناظر المروّعة، ومشاهدة القتلى والجثث والأشلاء، واختبار حالات البؤس لمن نجوا من الموت بأعجوبة.. ومع تكرار المشاهد ورغم قسوتها تصبح مألوفة، وشبه عادية.. الناس في غزة يعيشون بين الردم والأنقاض، وفي مراكز الإيواء في ظروف غير إنسانية، ويتلقون كل ساعة خبراً عن شهيد قريب أو جار أو صديق.. لم يعد هناك متسع من الوقت للأحزان، لم يعد في القلب حيّز لحزن إضافي.. ومع مرور الوقت تنطفئ جذوة الروح، ويفقد الإنسان شغفه، ويغدو مجرداً من أي إمكانية للاختيار، فهو مجبر على الصمود والبقاء ولا خيار أمامه.. يشعر أنه بات مسيّراً رغماً عنه، يسير حيث يسير الآخرون.. تستوي عنده الخيارات، حتى خيار الموت والحياة، فقد بات موته شيئاً متوقعاً في كل لحظة، وصارت الحياة مستحيلة، وغير طبيعية، تحركه فقط غريزة البقاء.
خطير جداً أن يصبح الموت مألوفاً.. والأخطر أن نعتاد عليه.. وأن تتبلد مشاعرنا، وهذا لم يعد فقط في غزة، من هم خارج غزة، وللأسف اعتادوا المشهد، ولم يعد يحركهم نبأ استشهاد مائة، ومئتين، وألف، وثلاثين ألفاً.. صاروا مجرد أرقام.  
بالتأكيد هذا لا ينطبق على الجميع، حتى في غزة، ووسط هذا الجحيم، ستجد في قرارة كل شخص تعلقاً بالحياة، وأملاً كبيراً، وتطلعاً للمستقبل، ستجدهم محبين للحياة، ومتفائلين، ويحلمون.. يعيشون في صراع نفسي مرير بين واقع صعب وأليم، وبين أمل بتوقف الحرب واستئناف الحياة من جديد.. صراع بين اعتياد الموت واستعادة النفس السوية الرافضة له.. يعبّر عنه البعض بالحنين إلى البيت والحياة الأولى، بكل أفراحها ومشاكلها..
في الحرب لا يوجد منتصرون، لأن الحرب بحد ذاتها اعتداء على الإنسانية.. فحتى من انتصر عسكرياً سيخسر إنسانيته، حين يعتاد على القتل ويتقبله كما لو أنه يلتهم ساندويتش لذيذاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *