اخبار السودان

نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه(12)

جمال عبد الرحيم صالح

قدم البروفيسور مهدي أمين التوم طرحاً منشوراً بالوسائط الإعلامية والتواصلية المختلفة بتاريخ 15 نوفمبر 2023، تحت عنوان “مشروع مُقتَرَح لِسُودَان بُكْرَة: وصاية دولية آنية، تقود إلى فيدرالية تكاملية مستقبلية”، فحواه أن الأوضاع بالبلاد في حالة من التدهور والهشاشة في كل جوانب حياتها بما يستدعي أن نسلم أمرنا طوعاً وباختيارنا لوصاية دولية تقودها الأمم المتحدة بغرض وضع السودان في مسار ينقذه من احتمالات التلاشي المحتملة، وذلك عبر تأسيس جهاز دولة حديث يسمح للبلاد بالتطور والتقدم إلى الأمام.

ورأي البروفيسور التوم هذا ليس جديداً، كما أن تأييدنا ومناداتنا بذات الدعوة ليس جديداً أيضاً، بيد أن هذه الدعوات تكتسب وجاهة ومنطقية أكثر ونحن نضع في اعتبارنا الوضع الراهن، الذي لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين أن يصل إلى هذا المستوى من الانفلات الذي يُعجِز حكماء هذه البلاد، على قلة هؤلاء الحكماء، من كبح جماحه، وما يقود إليه من مصير مظلم بشكل متسارع.

من جانبي أؤيد هذا الطرح لأسباب جوهرية، سأوضحها لاحقاً، ولا أظن أنها تقبل النفي أو الإنكار أو المغالطة لكل صاحب عقل سوي ووجدان متسق. سيركز الجزء الأول من مقالتي على واقع الحال بالبلاد باعتباره يوفر المعطيات اللازمة لدراسة الخيارات المطروحة وتحديد ما هو ملائم منها، على أن  يتناول الجزء الثاني من المقالة، تحليل توازنات القوى الفاعلة في الساحة، والحلول المطروحة حالياً، ثم نتناول من بعد ذلك حيثيات مقترحنا الذي يركز على وجوبية التدخل الدولي بالشكل الذي طرحه البروفيسور مهدي أمين التوم في مقالته المشار إليها.

مدخل:

يثبت التاريخ بخلو كامل بلادنا، وحتى آخر يوم في دولة المهدية، خلوها من أي مؤسسة تعليمية أو صحية أو طبية حتى وإن كانت صغيرة الشأن. كما يثبت بان كل حصيلتها من المرافق العامة لم  يكن يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، حيث انحصرت في مسجد أمدرمان الكبير (القائم في العراء حتى اليوم)، وسجن السائر، وبيت المال، وبيت الأمانة، وكلها عبارة عن حيطان خارجية بائسة ومباني داخلية مبنية من الطين وجذوع الأشجار. بذات القدر، يثبت ذات التاريخ، أن المستعمر البريطاني أنشأ للبلاد جهاز دولة كفء ذو فعالية ممتازة بمعايير تلك الفترة التاريخية، وشيد مشاريع كبرى تغطي معظم جوانب الحياة، في قطاعات الزراعة والتعليم والصحة والنقل والطاقة والجيش والشرطة وغيرها.

غض النظر عن رأينا في الاستعمار ومشروعيته ودوافعه وأهدافه، سقنا المقارنة السابقة لنسأل سؤالاً مباشراً، سنحتاج للإجابة عليه لاحقاً في مقالتنا هذه: هل كان محتملاً أن يؤدي التطور الباطني للدولة المهدية بخصائصها وطبيعتها المعروفة، وعلى سبيل المثال، إلى قيام مؤسسة تعليمية حديثة، وميناء عصري، وشبكة سكة حديد تربط ذلك الميناء بمدينة الأبيض وغيرها من المدن الرئيسية في خلال أقل من 10 سنوات؟ هل كان محتملاً إنشاء كلية حربية عصرية، وخزان على النيل الهائج لري 2 مليون فدان وتوليد كهرباء لتغطية المناطق الحضرية، وذلك في خلال عقدين من الزمان تقريباً؟

 

في وصف الحال

 

الحقائق على الأرض، أنه وبعد أكثر من خمسة وستين عاماً من الاستقلال، تعاني البلاد من أوضاع غاية في البدائية والتخلف بمعايير عالم اليوم، مع الوضع في الاعتبار أن سنوات حكم الإنقاذ الأربعة وثلاثون شهدت الشطر الأعظم، وبما لا تجوز مقارنته مع العهود الأخرى، من الانهيارات والتفككات التي أدت لذلك الوضع. غض النظر عن مسئولية هذا أو ذاك، لكن الواقع يقول أن السودانيين فشلوا تماماً في بناء دولتهم في أهم الجوانب: الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية والأمنية والعدلية.

يكفي دلالة على هذا الفشل، أن جهاز الدولة الذي تركه لنا الاستعمار يوم 31/12/1955 كان في مستوىً واحد، هذا إن لم يكن في حالٍ أفضل، مما تركه في ماليزيا التي استقلت عنه في نفس الفترة تقريباً. إلا أن الواقع اليوم يقول بأن دخل الفرد من الناتج الإجمالي لماليزيا لعام 2022 قارب الـ 12 ألف دولار في العام، مقابل 1,100 دولار للفرد بالسودان وذلك وفقاً لإحصائيات البنك الدولي، مع العلم بأن حظ ماليزيا من الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، عند بداية الحكم الوطني بها، كانت أعمق من تلك التي ورثناها نحن عن الاستعمار البريطاني. بمعنى آخر، فإن أوضاعنا كانت أفضل منهم.

ملخص لوضع الحياة الراهن ببلادنا:

لقد مثلت فترة حكم الاسلامويين المأساة الأعظم منذ الاستقلال، حيث أجهزت على ما تبقى من مهنية وانضباط واحترافية في الفضاءين، المدني والعسكري. في الواقع، لم تكتف الإنقاذ بالقضاء على تلك المزايا فحسب، بل زرعت شخوصاً ومؤسسات ومناهج وأفكار أفسدت ذينك الفضاءين بشكل كامل. كما مضت أبعد من ذلك عندما خلقت جهاز استخبارات مسيس بالكامل، لا يكتفي بواجب حمايتها فحسب، بل جعلت له اليد الطولى في إدارة الخدمة المدنية، بما فيها القضاء، وذلك  عن طريق إصدار القرارات من وراء ستار، أو عبر الآلاف من منسوبيه المزروعين في مفاصل تلك الخدمة المدنية.  يمكننا تلخيص واقع الحال في الجانب المدني في الآتي:

* نظام تعليمي ضعيف من جميع النواحي. مقررات بالية ومؤدلجة، مدارس عامة تفتقر لأبسط المقومات، من حيث الاجلاس و المناشط والمرافق الصحية، لدرجة أن العملية التربوية والتعليمية، في كثير من أنحاء البلاد تتم في العراء، والتلاميذ جلوساً على الأرض، تحت ظلال الأشجار. أما المدارس الخاصة، والتي باتت تضم نسبة عالية من الطلاب، نسبة لعدم رضاء ذويهم عن مستوى المدارس الحكومية، فغالبيتها العظمى عبارة عن منازل وشقق مستأجرة، بكل ما يتمخض عن ذلك من ضعف في العملية التربوية والتعليمية.

* مستشفيات عامة تفتقر للمقومات التي تمكنها من أداء دورها، ويعاني أطباؤها انعدام المعينات اللازمة، وتخلو مخازنها من أهم مطلوبات العلاج كما يقف شاهداً على الضعف المهني للقيادات في هذا القطاع، درجة تحول قضايا مهنية وعلمية لا تحتمل الجدل، لتصبح باباً للسجال في الصحف، كقضية المحاليل الوريدية الهندية، والدواء الإماراتي، وغيرها كثير.

* مناطق صناعية شبه منهارة نتيجة لعدم توفر الكهرباء اللازمة لتحريك عجلة الإنتاج، والصعوبات التي تواجهها المصانع في توفير المواد الخام، إضافة لجبايات الدولة. يقف شاهداً على ذلك، توقف الأغلبية الساحقة من مصانع النسيج والجلود التي كانت بمثابة مدن تستوعب عشرات الألوف من العمال والمهندسين، بل منها ما تم التخلص من معداته، الباهظة التكلفة، عبر بيعه كخردة لمصانع معالجة الحديد.

* تدهور الإنتاج الزراعي الذي يشهد عليه ما آل إليه مصير مشروع الجزيرة ومشروع سندس الزراعي، وتبديد مئات الملايين من الدولارات في مبادرات وهمية كالنفرة الزراعية والنهضة الزراعية.

* سياسة خارجية مبنية على أمزجة و مصالح الحكام الآنية أكثر من ارتباطها باستراتيجية شاملة للدولة، ويقف على تنفيذها جهاز دبلوماسي فاقد للكفاءة حتى في مقدرات دبلوماسييه اللغوية، يشهد على ذلك ما تم تداوله في وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي من نماذج مدهشة في ذلك الصدد.

* مؤسسات عدلية فاقدة للكفاءة والنزاهة والأهلية في جميع مفاصلها.

* طرق داخلية بالمدن وبين الولايات بعيدة بالكامل، من سوئها، عن أن تصنف تحت أي معيار هندسي، وفوق ذلك تكتظ بأكثر أشكال الانتقال بؤساً، حيث يكاد لا يخلو شارع رئيسي بعاصمة البلاد من العربات التي تجرها الدواب.

* شبكة سكة حديد معطوبة بالكامل تقريباً، رغم  إهدار مئات الملايين من الدولارات لـ “تحديثها”! و ناقل جوي وطني اندثرت معالمه، ومطارات غاية في البؤس.

* عاصمة، ومدن، وقرى تفتقد بلا استثناء لأي خدمات صرف صحي وتصريف لمياه الأمطار.

* أزمة طاقة كهربائية، تعاني منها المدن والأرياف، رغم انفاق مليارات الدولارات على سدود ومحطات توليد حراري كان من المفترض أن تحل أزمة الطاقة الكهربائية.

* أزمات دائمة في توفير مياه الشرب النظيفة بالمدن، دعك عن الأرياف.

* أسواق عامة تفتقد لعناصر التنظيم والنظافة وتتراكم النفايات في أرجائها. منافذ بيع مظللة ببقايا الجوالات الممزقة، ومعظم الباعة بها جعلوا من العراء مقراً لهم، بل أن أسواق الماشية الرئيسية انتقلت لجنبات الشوارع الرئيسية في قلب عاصمة البلاد.

* اضمحلال قطاع السياحة حيث تم تخريب ما كان موجوداً من قبل، كمحمية الدندر الطبيعية، وشواطئ البحر الأحمر الجاذبة، بل شمل ذلك حتى المتحف القومي، الذي انقطع الزوار عنه لما أصابه من بؤس.

* فساد شامل واستهتار بمقدرات البلاد يقف شاهداً واضحاً عليه ضياع 200 مليون دولار أمريكي على محطة كهرباء الفولة، التي لا تزال معداتها ملقاة في العراء رغم مرور أكثر من 10 سنوات من وصولها.

ذلك ما كان من أمر الخدمة المدنية، أما في جانب الخدمة العسكرية فيمكننا تلخيص المأساة في التالي:

*  تعدد غير مسبوق في الكيانات العسكرية وشبه العسكرية. أمثلة عليها:

جيش نظامي تسيِّره عقيدة عسكرية مشوهة، فاقداً للانضباط المطلوب، وفقير الالتزام بالعمل المؤسسي والأعراف والممارسات المعروفة عالمياً. لقد سجل هذا الجيش فشلاً ذريعاً في التمسك بالمسئوليات والواجبات والمعايير المناط بأي جيش العمل وفقها، والتمسك بها، مثل الولاء للدولة والوطن وليس لتنظيم من أي نوع سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً أو غيره، واحتكار السلاح، والخضوع للحكومة المدنية، والالتزام الكامل بالتراتبية ووحدة القيادة، وما إلى ذلك.

قوة موازية ونظيرة للجيش تحت مسمى “الدعم السريع” تدين بالولاء لعائلة واحدة ومتحررة من قيود الجيوش النظامية، وأفردت لها موارد بالغة الضخامة.

قوة أخرى موازية أيضاً للجيش تحت مسمى “قوات الدفاع الشعبي” تأتمر بأوامر قادة سياسيين ليسوا جزئاً من مكونات الدولة من الأساس.

تشكيلات عسكرية أخرى مجهولة القيادة والتكوين والتسلسل الهرمي (نموذجاً لها كتيبة البرَّاء والأمن الشعبي).

جهاز أمن واستخبارات موالي بشكل كامل لتنظيم سياسي، ذو صلاحيات مطلقة تسمح له بالتأثير حتى على الجيش النظامي، كما أنه يمتلك قوة ضاربة، تحت مسمى هيئة العمليات، موازية للجيوش الأخرى وغير مؤتمر بأمرها.

قوى مسلحة أخرى تتبع لقيادات جهوية وقبلية أخرى.

جهاز شرطة ضعيف مهنياً وفاقداً للكفاءة في أداء دوره، ليس له دور يذكر في تحقيق الأمان للمواطن الذي أصبح لا يحس بوجوده سوى في دفع غرامات المرور واستخراج أوراقه الثبوتية. وصل بؤسه مستوى أن يغض الطرف عن جرائم تهريب حاويات مخدرات عبر الميناء الرسمي للبلاد، وكشفها بواسطة سلطات الجمارك. إضافة لذلك، غذى حكم الإنقاذ المشؤوم ثقافة القهر للمواطن، وقد شاهد العالم صوتاً وصورة مدى العنف الذي مارسته الشرطة في قمع المتظاهرين السلميين، ومدى الاستخفاف بأبسط قواعد المهنة وأخلاقياتها (نموذجاً ساطعاً لذلك كذبة قائد الشرطة بولاية كسلا في تحديد سبب وفاة الشهيد الأستاذ أحمد الخير). في الواقع فإن للضعف المهني لقوات الشرطة تاريخ أبعد عن حكم الإسلاميين، وهو ضعف نجد شواهده في تعاملها وإدارتها لأحداث مارس 1954، وحادثة عنبر جودة مطلع 1956، وفى حوادث المولد النبوي  بأمدرمان عام 1961.

* على الرغم من تعددها وتكاثرها، واستنزافها لثمانين بالمائة من موازنة البلاد، تفتقد كل تلك التكوينات للمهنية والاحترافية، وتم تربيتها على العداء الشديد لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الوطنية العامة. لقد شهد العالم بأسره كيف تبارت هذه الكيانات في قتل وتهجير مئات الألوف من المدنيين في بقاع السودان كافة، وكيف تنافست  في قمع المحتجين المسالمين، قتلاً وسحلاً واغتصاباً، في العاصمة والأرياف، وكيف تبارت في الكذب ونقصان المروءة وفقدان الخلق القويم.

* رغم صحة بعض المزاعم عن مسئولية بعض القوى السياسية في إفساد العقيدة العسكرية للجيش النظامي عبر تنظيمها للانقلابات من خلاله، إلا أن واقع الحال يشير لخلل بنيوي في ثقافة وعقيدة هذه المؤسسة العسكرية النظامية. يؤكد هذا الخلل البنيوي، وينسف مزاعم أن تصرفات الجيش تلك إنما كانت استجابة لطلبات التدخل من قِبَل السياسيين، أن تاريخ المؤسسة العسكرية كان حافلاً بمحاولات انقلابية بدأت بعد الاستقلال مباشرة ولا يد واضحة للسياسيين فيها، كمحاولة انقلاب الصاغ عبد الرحمن كبيدة في يونيو 1957. كما أن الزعم ببراءة عسكريي انقلاب الجنرال عبود في نوفمبر 1958 باعتبار أنهم استلموا الحكم تلبية لطلب من رئيس الوزراء آنذاك، يدحضه رفضهم التام لطلب إعادة السلطة للمدنيين من ذات الجهة التي دفعتهم للانقلاب!  إذن، فإن هناك الكثير من الانقلابات ومحاولات الانقلاب تولى أمرها ضباط مغامرون مدفوعين بأجندتهم الخاصة، ولم يرد بها ما يمكن نسبته لأحزاب سياسية بعينها. بل أن أهم دليل على ما نقول، انقلاب البرهان بتاريخ 25/10/2021 الذي كان مدفوعاً بطموحات قادة الجيش، وزعمهم الذي لم يخفوه بوصايتهم على البلاد، ورغبتهم في الاحتذاء بتجربة الجارة مصر. لا يغير من هذه الحقيقة ما وجدوه من تأييد من قبل الإسلامويين، حيث لم يكن الأمر يعدو أن يكون زواج مصلحة مؤقت. وفي الواقع، وكنفي لزعم أن المدنيين هم الذين يحرضون الجيش على الانقلاب، فإن قائد الجيش، البرهان ورفاقه، هم الذين دفعوا قوى مدنية بعينها (إغلاق الشرق واعتصام الموز نموذجاً) لخلق تعقيدات في المناخ السياسي تبرر خطوتهم الانقلابية، وليس العكس.

* لقد بلغ مستوى التردي المهني حد أن يخلي الجيش الرسمي معسكراته لجيش آخر متطلع للسيطرة، وتفشل استخباراته وقياداته في التنبؤ بما كان معروفاً لدى رجل الشارع العادي عن طموحات قائده التي لم يتردد في الإعلان عنها بمختلف الوسائل، وعن التمدد الهائل لذلك الجيش، كماً ونوعاً.

* لقد بات واضحاً من خلال نتائج الحرب الضروس القائمة الآن، والتي تشير لتقدم الدعم السريع عسكرياً، أن المؤسسة الأمنية بأكملها في حالة انهيار وأنها أبعد ما يكون عن تطبيق الحد الأدنى من وظائفها.  وأنها تحتاج لإعادة بناء بالكامل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *