اخبار المغرب

طشقند وبخارى وسمرقند .. جواهر آسيا الوسطى ترصّع الحضارة الإسلامية

ليس هناك ما يسعد أي إنسان أكثر من السفر؛ لأنه يطرد العتمة، ويعطيه المتعة والراحة النفسية، ويفرغ رأسه من كل ما يزعجه، ويجعله يكتشف ثقافات جديدة.

وبعيدا عن أخبار العالم السلبية، سأنقلكم في رحلة عبور جغرافي، وتاريخي … رحلة تسحبكم من ذواتكم إلى لحظات ساحرة، عابرة للقارات ستمنح بورصة رصيدكم المعرفي أرباحا لا تحصى من الزاد التاريخي، والثقافي، والفني… كيف ذلك؟ تابعوني عزيزاتي القارئات، أعزائي القراء.

جوهرة آسيا الوسطى

تقاس ذاكرة الشعوب بمدى تقديسها لتراثها، وثقافتها، وتقيم تواريخ الأمم بمستوى تشبثها بماضيها التليد.. من هنا، نلاحظ كيف تتسابق اليوم كل الدول المتحضرة إلى محاولة الغوص في ماضيها، واستخراج الدروس، والعبر مما عاشته أجيالها السابقة، سواء صفحات إيجابية أو سلبية. ومن هذه الدول أوزبكستان، جوهرة آسيا الوسطى، الجمهورية الإسلامية التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي سنة 1991، و88 في المائة من سكانها مسلمون. هي مزيج من الطبيعة الخلابة، والتاريخ العريق، والثقافات المتنوعة؛ على أراضيها أكثر من سبعة آلاف معلمة تاريخية. وعلى الرغم من تدمير الكثير منها على أيدي المغول، فإن الأوزبكيين أعادوا بناءها وترميمها، والعديد منها مدرج على قائمة “اليونيسكو” للتراث العالمي…

ولم أكن أعلم بأنها البلد الأم للكثير من الشخصيات العلمية الإسلامية الشهيرة (البخاري الخوارزمي ابن سينا البيروني الزمخشري الترمذي النسائي…) أما المدن التي زرتها فكل واحدة متحف مفتوح ينبض بعبق التاريخ، والحضارة الإسلامية، والفن الأوزبكي.

ملتقى الحضارات وثراء الفنون

طشقند: ومعناها (الحجر) عاصمة أوزبكستان؛ تتميز بالمساحات الخضراء، والحدائق المزهرة على طول الشوارع؛ بها 15 متحفا، وأكثر من 300 مسرح، وأكثر من 3 آلاف مكتبة عامة، ومنظومة تعليم عال؛ بحيث جامعاتها ضمن 500 جامعة متطورة في العالم….. ومن المعالم التي زرتها ميدان الاستقلال الرائع خصوصا بالليل، ضريح يونس خان، ومتحف تاريخ التيموريين، وجامع الإمام خاست الذي يمنع فيه التصوير لأنه يضم مصحف عثمان الذي يعد أقدم قرآن مخطوط يعود إلى 655م ملطخ بدماء الخليفة عثمان بن عفان، جلبه القائد التاريخي تيمور لنك كشاهد على انتصاراته. اسم هذا القائد يتكون من جزأين: تيمور تعني الحديد، لنك: تعني الأعرج حسب شرح المرشد السياحي. هذه الشخصية التاريخية هو حفيد جينكيز خان، تعتبره أوزبكستان بطلا قوميا؛ بينما يرى البعض أنه سفاح استعمل العنف في كل فتوحاته. وفي كل مدينة تجد تمثالا لتيمور لنك فوق الفرس، أو واقفا والسيف في يده.

وعبر الخطوط الجوية الداخلية انتقلنا إلى أقدم مدينة خيوة، واسمها القديم خوارزم موطن الخوارزمي.. تأسست منذ أكثر من 2500 سنة، وبها العديد من المعالم الإسلامية؛ منها: المدارس العتيقة لتحفيظ القرآن، وتعليم اللغة العربية، وأعلى مئذنة تاريخية في آسيا الوسطى مئذنة قطلوق تيمور التي يصل ارتفاعها إلى 60 مترا. وكل معلمة بجانبها سوق لعرض المنتوجات التقليدية المحلية واليدوية من إبداع النساء الأوزبكيات.

ومن خيوة إلى مدينة بخارى طريق الحرير القديمة. عبر الحافلة 450 كيلومترا؛ طريق صحراوي رائع بمحطات الاستراحة المجهزة بالجلسات التقليدية، وجودة الخدمات، والأطباق الأوزبكية المشهورة “البلوف”؛ وهي أكلة تتكون من اللحم الكثير، والأرز، وطبق “الشاشليك” المكون من المشاوي المتنوعة.

بخارى: معناها الصومعة مولد الإمام البخاري، وابن سينا؛ وهي مركز لنشر تعاليم الدين الإسلامي، والثقافة والعلوم. تضم عجائب العمارة الفارسية والتركية، وتعتبر العاصمة الدينية والمدينة المقدسة في أوزبكستان لأنها محاطة بالمساجد والمآذن والقباب الفيروزية المنقوشة بالآيات. بها أيضا مائة مدرسة عتيقة، وعين أيوب نسبة إلى النبي أيوب، يؤمها العديد من الزوار للعلاج من الأمراض الجلدية….. مدينة تسحرك، وحيطانها تنثر عبق التاريخ… لذا، يزورها كل سنة 10 ملايين سائح.

والذي أثار إعجابـي أيضا مجمع ريجيستان الذي كانت تقام فيه المحاكمات علنا، ومجمع كاليان الإسلامي. أما قصور الحكام فكلها منقوشة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة مثل: الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، إذا تحديتنا فانظر إلى مآثرنا…. وكل القصور بها قاعات فاخرة لاستقبال الشخصيات والوزراء من طرف حاكم بخارى، وقصر الحريم كأنك في إحدى قصص ألف ليلة وليلة.

جنة الدنيا

قرأت عنها في الروايات، وشاهدتها في الأفلام التاريخية تبعد عن بخارى ب300 كلم ، وصلنا إليها عبر القطار السريع المميز مستوى الخدمات الراقية ، إنها *سمرقند * مدينة القباب الزرقاء، وموطن كبار العلماء، جنة الدنيا، وجوهرة الإسلام، وعاصمة السياحة العالمية؛ هي كذلك مدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي لما فيها من معالم تاريخية فريدة *مسجد ذو المآذن الأربع *، ومقبرة أسرة تيمورلنك؛ هذا القائد الذي قرر أن يجعلها أروع مدينة في آسيا؛ نقل إليها الأحجار، والفسيفساء من الهند، وجاء بالحرفيين والصناع المهرة من دمشق، ولا يمكن لسائح ألا يزور مسجد * بيبي خانوم * يسع لعشرة آلاف مصلي ؛ بناه تيمورلنك لزوجته المفضلة ( بيبي خانوم )،مبهر في الهندسة المعمارية الأوزبكية، والزخارف الذهبية ، وكل زخرفة تحمل معنى ودلالة..

منتجع أمير سوي

بالرغم من أن 80 في المائة من مساحة أوزبكستان صحراء؛ فإن فيها منطقة مشهورة بالثلوج هي “تشاوراك”، تبعد عن العاصمة طشقند بمائة كيلومتر، تضم منتجعا رائعا أمير سوي في جبال تيان شان تصل إليه عبر (تلفرك) على ارتفاع 2300 متر، تتخلل الصعود إليه مناظر طبيعية رائعة لا تنسى، وفي القمة تجد البيوت الخشبية بتصاميم غريبة تطل على بحيرة شرفك، فترسم لوحة فنية ساحرة.

السياحة الرياضية

لم أكن أعرف أن نجاح المنتخب الوطني المغربي في بطولة كأس العالم بقطر 2022 له أهمية؛ حتى زرت أوزبكستان، فعندما الأوزبكيون كانوا يسألوني: من أي بلد أنت؟ أجيب المغرب، فيهزون رأسهم بالنفي، لكن عندما أضيف: المغرب بلد أشرف حكيمي وزياش وبونو تتهلل أساريرهم، ويعبرون عن فرحتهم وإعجابهم ويرحبون أكثر، ويستعرضون أسماء أخرى من المنتخب المغربي..؛ ففهمت أن السياحة الرياضية بالمغرب أصبحت محط أنظار بلدان العالم بفضل ملحمة الأداء الكروي المغربي الذي أبهر العالم، واستنتجت أن السياحة الرياضية رافعة للترويج السياحي لوجهة المغرب، ولها مكانة في الاقتصاد الوطني. وسيزيد إشعاع المغرب بعد توقيع اتفاقية السياحة الرياضية التي تمتد ما بين 2023/2030 بين رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم وبين المدير العام للمكتب الوطني المغربي للسياحة؛ فهذه الأخيرة زاد لا غنى عنه في تزييت ماكينة الاقتصاد، والدبلوماسية، وحتى التنمية بمفهومها الشامل…

بناء الإنسان قبل المكان

إذا كان الهدف الحادي عشر في خطة التنمية للأمم المتحدة 2030 هو جعل المدن فضاءات عامة آمنة فالبلد الذي يطبقه هو أوزبكستان؛ لأن الذي أبهرني وأثار انتباهي ليس هو المعالم الحضارية والنصب التذكارية للعمارة والفن، وإنما أبهرتني ثقافة الشعب الأوزبكي.. يتحدثون بهدوء، واحترام، سلوكاتهم راقية… شوارعهم نظيفة هادئة لا ضوضاء، ولا تلوث، ولا مقاه، لا أطفال يلعبون.. ولا كلاب ضالة ولا مشردين.. ولا متسولين…؟ إنهم صناع الجمال في كل مكان.. صباحا، بغرفتي بالفندق سمعت جرس المدرسة، فأعجبني الصوت، فألقيت نظرة من النافذة، ففوجئت بالتلاميذ والتلميذات يدخلون لوحدهم بدون سلوكات عدوانية، ولا صراخ ولا تدافع؟

فعلا، أوزبكستان عملت على بناء الإنسان في التنشئة الاجتماعية، فكوّنت الإنسان الذي يحترم، ويحافظ على المكان…

إذن، أضيفوا الحياة إلى سنواتكم بالسفر، واسرقوا من العمر حياة قبل أن يسرق العمر سنوات حياتكم… وبما أن القراءة أيضا رحلة فأتمنى لكم رحلة ممتعة.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *