اخبار المغرب

عطاء الفنانة الغنائية سعيدة فكري .. الكثير من الوفاء والقليل من رد الجميل

الفنانة العالمية سعيدة فكري هي الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، الشيء الذي جعل وعيَ الاختلافِ لديها وعياً جمالياً، تماما كتنوع أغصانِ الشجرة، كما أَنَّ تَأصيلَ قِيَمِ الاجتهادِ والبحثِ عن الحقيقة والتجديد بات بالنسبة إليها إرساءً لدعائمِ الإبداع بكل صوره وأشكاله.

وَحَيثُما أن الإبداع فكرٌ خَلاَّقٌ، وَهْجٌ أَخَّاذٌ، صَيْرورَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ، عمليةُ تجاوزٍ وتجدد… فإن سعيدة فكري ظلت وفية لاجتهادها، متأصلة لإبداعها الذي ينمو بداخلها ويترعرع ويكبر شيئا فشيئا في كيانها. اجتهاد اسمه “المجتمع” وإبداع عنوانه “الإنصات” لآهات الأفراد والجماعات، وهمومهم وتوسلاتهم، وبين هذا وذاك تتجلى “الحقيقة” التي تسعى سعيدة فكري لتقديمها للمتلقي، لكن بشكل مختلف، دون أي توجه، الحقيقة كما هي، ودون إخضاعها لأهواء الذات.

كثيرُةُ التِّرحال والسفر..

لكن لمنطقتها الخاصة دفئا خاصا بها..

يقولون إن الاحتكاك يُوَلِّدُ الحرارة..

ومنطقتها كلما احْتَكَّ بها قلبها أشْعَلَتْ فيه نارَ الشوق، وحَرَّكَتْ فيه روائح الدروب والأنفاسِ المُخْضَرَّةِ، وجعلتهُ يُحِسُّ حِرَاَك الأشياء تَتَقَمَّصُ أرواح أَحِبَّتِها، فَتُعاوِدُ ثُقوبَ الذاكرةِ امتلاءً بِصَخَبِ الماضي الجميل…

الحالمةُ أنتِ…يا حلمَ الواقع..

الحالمة أنت…يا سعيدة فكري..

الحالمة أنت…يا مرآة الواقع.

للأمكنةِ سِحرُها وَسطْوَتُها، أمكنةٌ لا يُمكنُ نِسيانُها، وأمكنةٌ لا يمكن مُغادَرَتُها، وأمكنةٌ تَنَامُ وتَصحو في دواخلنا كلَّ يوم.. نَشُمُّ رائحتها حتى بعد سنوات من مغادرتها..

تحملُ الأمكنةُ جزءاً منا، من أعمارنا، من ضحكنا، من شقاوتنا من تاريخنا، طفولتنا، قصص عشقنا، حكايات أصدقائنا الذين سرقهم الزمن وتقاسمتهم المسافات، وحكاياتُ الوجوهِ القديمةِ التي تَركتْ بصماتها في حياتنا.

المغرب.. هو زمن الأمكنة بامتياز، ومكانُ تقاطعِ الأزمنةِ بانفراد.

عروس الآثار وأرض الأجداد، مظهر جمال الطبيعة الفتان، ومعقلُ الرجال الأفذاذ، مُلهِمُ المبدعين والفنانين، ومقصد الدارجين والسالكين.

المُلْهِمَ الذي على الرغم من أنه يتربع على الهدوء إلا أنه يتمخَّض تَجَدُّداً… تجدُّدا بتجدد الحياة فيه.

وذكرياته تبقى جرحا غائرا في دفاتر الزمن البعيد، تُفَجِّرُ كَوامِنَ الحب والحنين: حنين العودة إليه في كل وقت وحين، لاستقراء ذاكرته، ومساءلة أزمنته، وما تختزله دروبه وأزقته، حيث عَبَقُ التاريخ ورائحة الفن والإبداع التي تؤثث المكان… وكل مكان.

وفي كل مكان من أمكنة “المغرب” قصة جديدة، أحداث وتفاصيل جديدة، حكايات عديدة..عمرها التاريخ.

واحدة من هذه الحكايات.. حكاية فنانة اسمها سعيدة فكري.

سعيدة فكري الراقصّة الأنيقة على نهر الخلق والإبداع، السائرة بِهَيبَةٍ ملكيّة على مَمْشى الأنغام والترانيم، الخاطفة لقلوب الملايين حول العالم؛ فنانة، شابة ناطقة بالثقافة والفنون، نابضة بالحبّ والحيويّة…

مسارات رؤية

ضميرٌ حيٌّ، وقلبٌ مُحِبٌّ، وإخلاصٌ في العملِ…

هذه هي “الألوان” التي استَعمَلتُها حين أردتُ أن أشَكِّلَ لوحةً تَأْطِيرِيَّةٍ/تعريفية بمثابة بورتريه يؤرخ للفنانة الكبيرة سعيدة فكري.

طاقَةٌ إيجابية، تتحرك في الغدو والآصال، لِتَشْدُو رِضىً ومحبة، تصل أعماق القلوب…

جُهْدٌ وَجِهادٌ يَلْمَعانِ كالمنارَةِ على رأسِهَا نُورٌ وَضِياءٌ، يَراهُ من فقدَ الطريقَ، فَيَهْتَدي بهِ وَيَنْتَفِعُ من نورِه…

تلك هي الفنانة سعيدة فكري… موسيقية كبيرة، عازفة أصيلة، عملَتْ بِصَمْتٍ وفيرٍ، فتركتْ بصماتٍ واضحةٍ، أسهمتْ، بفاعلية لامعة في صقل شخصيات أصدقائها ومعارفها ومحبيها…

شخصيةٌ كاريزمية، وآلةُ زمنٍ تُرْجعُ الواحد منّا إلى عصور ماضية قلَّ نظيرُها، بتقاسيمها، وألوانها وزخرفها.. فهي تحمل للمصغي إليها، والمستأنس بها، نسائمَ ماضٍ ثَريٍّ بالأنغام المنسجمة المتناسقة، والشمائل النقية البَهِيّة، والأخلاق الحميدة العالية…

لقد أدّت الأمانةَ، وحقّقت أجزاءَ من الرسالة، وسجلت بَصَماتٍ تَشْهَدُ عليها تجارب وأعمال تجاوزت حدود الزمن والمكان، لتعلو علو الحب والوطن، وستبقى شهادات في حقّهِا وِسَامًا فَخْرِيّا يُتوّج سِنينَ حياتها.

نقف اليوم على المحبة والوفاء، وهو مَوْقِفُ تقدير واجبٍ علينا، لفنانة تحملُ بين ثَناياها رَايَة الجِدِّ والإخلاص، في مضمارِ العمل الدؤوبِ، من أجل خدمة قضايا صرف إنسانية واجتماعية، فكان أن بَصمت مسيرتها بِحُبٍّ ووفاء كبيرين، وبكل جهد وإخلاص عظيمين، بَاذِلة في محيط عملها الفني والموسيقي خِبْراتِها وَتَجاربها المتواضعة، فدخلت القلوب دون استئذان، لما منّ عليها الله به من خفّة الروح، وما حباها به من سماحة النفس، وغزارة العلم، وفصاحة اللسان، والبصيرة الثاقبة في أمور الفن والموسيقى.

يقول فيلسوف فرنسي: “تجتمع مقدرة الشعب كلها في هذه الطائفة الصغيرة المؤلفة من الرجال الممتازين، أولئك الذين إذا أخرجناهم من كل جيل سقط مستوى الأمة العقلي سقوطا كبيرا، وإلى هذه الطائفة يرجع الفضل في الرقي الذي وصلت إليه الأمم في جميع فروع الحضارة. والتاريخ يدلنا على أننا مدينون لهذا الرهط بكل ذلك”.

تلك هي الفنانة سعيدة فكري… مبدعٌة كبيرة، عملَت بصمتٍ وفيرٍ، فتركت بصماتٍ واضحةٍ أسهمت، بفاعلية لامعة، في صقل أعمالها وزمرة تجاربها، وتطوير مهاراتها، وتوجيه مواهبها، محبة في “الموسيقى” وعشقا فيها.

وإذا كان الاجتهادُ هو الأرضية الخصبة لنمو مستويات الإبداع في المحيط المجتمعي، وهما تَوأَما الخروجِ من قِمَمِ الجهل والتخلف، كما أنهما الأرضية الخصبة لإبداعات الإنسان على مختلف الصُّعَدِ والمستويات، فإن سعيدة فكري ظَلَّت وَفِيّة لاجتهادها، مُتَأَصِّلة لإبداعها الذي ينمو بداخلها ويترعرعُ ويَكْبُرُ شيئا فشيئا في كيانها وبداخلها.

وأول الإبداع السؤال، وجَدَلَهُ “الإنساني”، والإنسانُ بحسب المنظور الرباني، أكثر الكائنات قابلية للجدل، لذلك ابْتَهَجَت سعيدة فكري بالسؤالِ، لأنهُ يمنحها التَحَفُّزَ والرغبةَ ويَدفعُها إلى البحث المضني والمغامرة العقلية، بحثا عن ضالة تقيها حرَّ السؤال ولهيب المعرفة، لعلّها ضالة الموسيقى وسقف الحرية.

وإذا كان للمستقبل حكاياتٌ، فإن بداية الحكاياتِ بَزَغَتْ لسعيدة فكري بإشراقةٍ هي الوطنُ بِأكملِهِ، وهي المعرفةُ بِأَتَمِّها، سعياً وراء تحقيق الأحلام والطموحات المهنية والشخصية، نِبْراسُها في ذلك خُطى مَنْ سَبقها من نماذج وطنية مُشرقةٍ من أعلام وموسيقيين في المغرب وخارجه، ممن خَطُّوا بأخلاقهم وعلمهم وَهِمَمِهِم العالية دروب السَّبْقِ والريادة.

أعلم جيدا أن الوقت لم ولن يسعفني في هذه العجالة من فسحة الزمان للوقوف عند تِعْدادِ خصال الفنانة سعيدة فكري كرِحْلَةٌ من الكفاح الفني والجهد الموسيقي، إلا أنه أَمْكَنَ اعتبارها بمثابة سفر متواصل في مسيرة من العطاء الإنساني والاجتماعي. رحلةٌ زادها الصدق، ومسيرة خطاها الجُهْدَ النَقِيُّ، واحْتِفاؤُنا بها اليوم، إنما هو احتفاءٌ بفنانين حَرَصوا دائما على هويتهم، كي تكون هذه الهوية غير مقطوعة الجذور، مُتَرابِطةَ الأوصال والأصول، تحافظ على أصالتها من غير أن تَتَجَمَّدَ أو تَتَقَوْقَعَ، لتبقى مُنْفَتِحَةً على كل ما يفيد منظومتنا الأخلاقية، التربوية، الاجتماعية ثم الفنية.

رحلةٌ هي العطاءُ، والعطاءُ هو الرحلة، وبينهما “سعادة” لا توصف تَشُدُّ الرِّحَالَ نحو الأفق، سعيا إلى العطاء ونبذِ الجمود والاتكالية التي لا تنتهي…

فشكرا، إذن، لكل من آمن بنجاح هذه الفنانة، وأعتبر المراحل التي مرت منها، وما تم منها، أكبر دليل على أننا بالصدق والإخلاص والتفاني نستطيع أن ننجز ما لا نستطيع فعله بمجهود فردي.

إننا هنا لا نقوم بصناعة سجل ذهبي آخر اسمه سعيدة فكري، فقط لأن السجل الذهبي لا يمكن تسميته إلا بالسجل الذهبي.

ولهذا، فإن سعيدة فكري لن تكون إلا الجيل الذي ينْقلُنا من “يُمْكِنُنا” إلى “فَعَلْنا”…

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *