اخبار السودان

هل يمثل الحسم العسكري حلاً لمشكلة السودان؟

هل يمثل الحسم العسكري حلاً لمشكلة السودان؟

د. الوليد آدم مادبو

جاء “إعلان جدة” محبطاً للآمال رغم ما حمله في طياته من نقاط تسعى “للالتزام بحماية المدنيين في السودان”، فتاريخ الجهتين المتقاتلتين لا يشي بقدرٍ ولو قليل من احترام لحقوق الإنسان.

عليه، فإنَّ أيَّاً من الطرفين يمكنه خرق هذا الميثاق متعذراً بعدم التزام الطرف الآخر. إذن من الناحية العملية والواقعية نحن إزاء إعلان حرب طويلة تُهيأ لها العاصمة المثلثة ساحةً للقتال.

في ظل هذه المعاناة الإنسانية وعجز الأغلبية عن الهروب أو الإيفاء بمستلزمات الحياة اليومية (وقد بلغنا أن الناس باتوا يدفنون موتاهم في حدائقهم الخلفية على أمل نقلهم لمقابرهم الأصلية عند انتهاء الحرب) فإنّه لا يسعنا إلّا أن نسأل أنفسنا سؤالاً مُلِحْاً، هل يمثل الحسم العسكري حلاً للمشكلة السودانية أم أنَّه يزيدها تعقيداً؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نرجع لنقطة أساسية تتعلق بمعاملة الاتفاق للطرفين كقوتين متعادلتين من حيث المشروعية والكفاءة العسكرية، لا سيما أنَّ الديباجة استنكفت عن مجرد تعيين الجهة، في هذه الحالة “حكومة السودان”، واكتفت بذكر “القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع”. مرد هذه الحيثية أمران: أمر قانوني يتعلق بدستورية قوات الدعم السريع وقانونية نشأتها، وأمر سياسي له صلة برغبة الأطراف الدولية في الاحتفاظ بمسافة متساوية من الطرفين ريثما تنكشف الغُمّة وتستبين سبل التفوق لأحدهما. حتى هذه اللحظة تمتنع الأطراف كافة عن إعانة طرف على الآخر. لعلها حيلة المجتمع الدولي في إيصال الطرفين إلى “مرحلة توازن الضعف”، كي يسهل مساواتهما أو الانقضاض عليهما بيسر من طرف وطني ثالث. وهذا في نظري هو الأرجح.

لو كان الوسطاء مطمئنين لحيادية القوات المسلحة وقومية توجهها لما ترددوا لحظة رغم الإشكال القانوني في وصم قوات الدعم السريع بالقوات المتمردة، لكنّهم شهدوا وخبروا قوات متمردة في أنغولا ورواندا وإثيوبيا وروديسيا قد تغلبت على الجيش الوطني وحلت مكانه، هذا إذا استثنينا كولومبيا والصين الشعبية وفيتنام، تلك البلاد التي أُلُغِي فيها الجيش الوطني وأعيد ترتيبه بناءً على رؤى “القوات المتمردة”.

حتى لا نسترسل في الرهانات الإقليمية يلزمنا الرجوع إلى الخرطوم ومناقشة تداعيات النصر لأحد الفريقين (قوات الشعب المسلحة والدعم السريع)، قد تنجح القوات المسلحة السودانية في سحق “التمرد” غير آبهة بالخسائر المادية والبشرية، بمعنى أنّها ستدك الخرطوم دكّاً مثلما فعلت الولايات المتحدة في البصرة والتي لم تنجح في إخراج داعش منها إلا بعد ستة أشهر، لكنّها ستخرج منهكةً ومُحرَجةً لا تستطيع مواجهة المجتمع السياسي المدني إلا بمزيد من الزهو الذي يجعلها تدَّعي حماية الشعب والمن عليه باستخلاصها له من “سرطان” هو من صنع يديها.

بالقدر الذي ساهمت فيه قوات الدعم السريع في استثارة حفيظة المواطنين الوسط خاصة في الخرطوم بتصرفاتها المشينة والمهينة التي قد تستنهض هِمَّة المقاومة الشعبية، فإنّها قد هيجت مشاعر الريف وقبائل البقارة خاصة التي لها تاريخ حافل بالضغائن مع الوسط النيلي الذي رأى في حميدتي “أيقونة نضال” وهو بعد لم يكتشف أنّ الأخير ممثلٌ غير أمين لقضايا الهامش، مثله مثل بقية قادة الحركات، لكنّه أخطر من حيث الطموح الاقتصادي والسياسي والأدوار المزدوجة التي يمكن أن يلعبها للمحاور الإقليمية والدولية، يشمل ذلك إسرائيل وبعض دول الخليج الحالمة بسرقة ثروات السودان واستثمار محنة أهله.

ما أود أن أقول به هو أن هناك انقسام مجتمعي خطير سيجعل الاستفراد بالحكم صعباً إذا لم نقل مستحيلاً لأيٍّ من الفريقين، إذا نظرنا للقطر كافة ولم تقتصر نظرتنا على الخرطوم أو نكتفي بالنظرة إلى الغرب الكبير (غرب السودان).

ليست لدى أيِّ واحدٍ من المتقاتلين مشروعية أخلاقية أو فكرية تؤهله للحكم بالنظر إلى ما أحدثوه من إعاقة للعملية السياسية طيلة السنوات الأربع الماضية هذا إذا تغاضينا النظر عن ثلاثة عقود أوصلت البلاد إلى حال الدمار الشامل، أو بالنظر إلى الجرائم التي اقترفوها في حق الشباب الذين قُتلوا ليلة فض الاعتصام والمتظاهرين الذين تمَّ اصطيادهم منذ أن ادْلَهمَّ ليل الانقلاب في 25 أكتوبر.

إذا ما انهزم حميدتي وتراجع نحو الغرب، فهناك ظلامات تنتظره من الزرقة (المواطنين من أصول إفريقية) وبعض قبائل العرب. أما إذا انتصر في الخرطوم وهذا شبه مستحيل لأنه فاقد للمشروعية الأخلاقية فقد أثبتت التجربة الأخيرة أن قواته لم تستطع أن تتجاوز ظروف النشأة والتكوين، رغم تبدل المسمّيات (جنجويد، حرس حدود، دعم سريع). أمّا التشدق بالاتفاق الإطاري والتعويل على فكرة التحول المدني الديمقراطي فمحض هراء، لأن المرء يحكم عليه بسالفه وحاضر عهده الذي مَثَّل أكبر تعدٍ على المدنية والحقوق الإنسانية. صحيح أن الريف معافى حالياً من الانتهاكات لكنّه سرعان ما سيستشعر وطأة الأحداث عند ضياع الأمن وانقطاع الخدمات التي لها صلة عضوية بالمركز. حينها ستعم المقاومة الشعبية للمشاريع النهبوية التي يتبناها كلا الفريقين المتقاتلين.

أعلم أنَّ هناك جهات تسرها دينامية القتال الحالي وتباين أهله العرقي والمناطقي لكنني أود أن أذكِّر هؤلاء بأنَّ كسر شوكة النوبة أو كسر شوكة العرب تعني قصم ظهر السودان (بالبلدي كدا أقول ليكم “انقرعوا”، بمعنى ارْعووا، وكونوا عاقلين وابقوا على الجند السودانيين، فقد تحتاجونهم يوماً هو ليس ببعيد). متى ما فرغت القوات المسلحة من حسم “التمرد” ماذا هي فاعلة بشأن الحلو وعبد الواحد كحركات مناهضة لهيمنة المركز الثقافية ورافضة لاستحواذه على موارد البلاد وسلطتها السيادية؟. أعجب عندما أسمع أحدهم متحدثاً باسم “العملية السياسية”، وقد أحس أحياناً إنّه منتحل لشخصية غير واقعية. أيُّ عملية سياسية هذه، تلك التي أوردتنا موارد التهلكة؟! أرجوكم، كفوا عن هذا العبث، إن البلاد قد عانت من محاولة “أقلية مافيوية” و”شلة خرطومية” فرض سيطرتها على شأن البلاد السياسي والاقتصادي، وإذا كان هذا الأمر ممكناً في الماضي فقد أصبح مستحيلاً في ظل الوعي المتحصل حالياً للجماهير. إذا لم تتعلم النخب المركزية من هذه الكارثة، فمتى تتعلم؟.

ختاماً، إنَّ الحسم العسكري الذي تغذيه أو تشرعنه فكرة “احتكار الدولة لمشروعية استخدام العنف” لا يمكن أن ينجح في غياب مشروع سياسي وطني يناقش الظلامات التاريخية، يتبنى فكرة الإصلاحات الهيكلية والبنيوية، ينصف الشعب من ذات المؤسسات العسكرية والشرطية والأمنية التي استحدثت مليشيات قبلية، أوكلت إليها مهمّة حسم الخلافات المجتمعية وأسندت إليها مهمّة دحر “التمرد” الذي لم يفعل أهله في أنحاء السودان كافة أكثر من مطالبتهم بحقوقهم الأساسية التي لا يكفلها إلا دستورٌ متوافق عليه من قبل المواطنين كافة.

لابد إذن من الإسراع في تكوين الجهازين، التشريعي والتنفيذي فور خفوت صوت البندقية، حبذا الإشراف على ذلك من قبل لجنة قومية تشرف عليها شخصيات وطنية نزيهة، فذلك يغني عن المماحكات الحزبية والمزايدات الشخصية التي أعيت الشعب من يوم أن فجَّر ثورته إلى لحظة اشتعال الحرب الحالية.

[email protected]

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *