لدى الحديث عن سلطة بديلة لحركة حماس في غزة، توافق الجميع، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، على أنه لن يكون من المقبول أن تأتي سلطة جديدة إلى القطاع على ظهور الدبابات الإسرائيلية. سلطة الرئيس محمود عباس نفسها، رفضت العرض، لأن الأمر سيكون عارا لا يُمحى!الميليشيات الحاكمة في العراق لا تحمل على أكتافها شيئا، إلا هذا العار. وتعرف أن الذين حملوها على دباباتهم، يعرفون أنها عار على العار، ليس لهذا السبب وحده، بل لأنهم يعرفون دركها السياسي وسافلها الثقافي ومنزلة أدواتها ولصوصيتها وغير ذلك مما يعد ولا يحصى.
كما لا يخفى أنها مأمور لآمر، وأنها تلعب لعبتها في الفراغ لخدمة أغراض فارغة أيضا، وذلك طالما أن المثل بينهما ينطبق على قول القائل “إحنا ولد الكريّة (القرية)، واحدنا يعرف أخيّه”. حتى لا تعود تعرف ما إذا كان عليك أن تضحك أم تبكي كلما أطلق “الأخ” التهديدات على “أخيه”، أو كلما حمل صواريخه المحشوة بفراغ المعنى، لكي يتم إطلاقها على القواعد الأميركية. من ثم، لا تعرف كيف جاز أن “تعلو العين على الحاجب”.ولو أن السفيرة الأميركية في بغداد نظرت في عين واحدهم، لكان يكفيها أن ترنو ببصرها إلى البلاط، ليفهم “الأخ” مكانه في المعادلة.
ليس من المعقول، من وجهة نظر الشرق والغرب والشمال والجنوب، أن تأتي سلطة إلى غزة على ظهور الدبابات الإسرائيلية. ولكن كان من المعقول تماما، أن تركب ميليشيات طهران تلك الدبابات في الطريق إلى بغداد.ولكن، وحيث أن المعرفة متوفرة، كلٌ بالآخر، فإن الولايات المتحدة تتفهم حاجة “الولي الفقيه” وحرسه الثوري، لممارسة الادّعاءات، بوصفها جزءا من “عدّة الشغل”. كما تتفهم قذائف غلمانه، وتتعامل معها باهتمام! وترد عليها برشاقة مَنْ يرتدي قفازا من حرير، وذلك كجزء من فن “إدارة اللعبة” وترتيب نتائجها، بحيث تُرضي وتستجيب لاحتياجات الطرفين.
حملتهم الولايات المتحدة على دباباتها، لأجل ترتيب الضمانات والتعاقدات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تُبقي العراق خاضعا لاحتلال، يبدو مخمليا من الخارج، ولكن يده خشنة على الذين وقعوا ضحية للاحتلال. وتلك اليد، ذات الأظافر الحديدية، هي تلك الميليشيات بالذات. وظيفتها أن تضمن الضمانات، لتضمن لنفسها، في المقابل، ما تشاء من النفوذ، وما تشاء من “غاياته”، ومنها النهب المنظم لموارد البلاد.
ومثلما أن الولايات المتحدة ترد أو تصمت، حسب احتياجات ضبط الإيقاع، فإنها تعلم أن لكل لعبة ملعبا. حتى أصبحت “الساحة العراقية السورية” هي الساحة المسموح لميليشيات الولاء لإيران أن تتحرش بقواتها هناك. ليبدو الرد الأميركي المحدود مؤشرا لنوع من التفاهم بين الطرفين على أنه عملية تنفيس متبادلة. ينفث الميليشياويون من خلالها ادّعاءاتهم الثورية، وتنفث الولايات المتحدة تأكيدات لاستمرار الحاجة إلى بقائها هناك.
مفهوم أيضا أن الحكومة في بغداد لا تملك من أمرها شيئا. فهي تندد بالهجمات التي تشنها بعض الميليشيات، لأنها تعرف أين تكمن قدرات الاحتلال وما هي دباباته الحقيقية. وتعرف أن القواعد العسكرية الأميركية ليست سوى رمز لتلك القدرات. وهي لا تفعل شيئا لتلك الميليشيات، في نوع من التأكيد الضمني على أن الواقع السريالي القائم، بين خلائط الأدوار والجماعات، يسمح بمسرحيات من هذا النوع. يتحول راكب الدبابة إلى عدو لسائقها. وكلاهما يصل إلى الهدف المنشود. واحد يثير ضجيجا ثوريا. والآخر يتساهل معه على اعتبار أنه غوغاء مفيد، لئلا تظهر أطراف، من خارج اللعبة، تقصد ما تقول.
“الإحلال والاستبدال”، أمر جرت ممارسته في العراق لضمان الاستقرار. فأيام كانت هناك مقاومة مسلحة للقوات الأميركية، صار من الضروري أن تظهر “مقاومة مسلحة” (شريفة)، لتحل محلها. وحيث أن الدعوات إلى مواجهة الهيمنة الأميركية على العراق تستقطب المشاعر التحررية الطبيعية، فقد صار من المفيد أن تتم سرقة هذه الدعوات لكي يؤدي أدوارها راكبو الدبابة بالذات، فلا يفلت من أيديهم الزمام. وحيث أن القضية الفلسطينية، عصب حساس في العراق كما في غيره، فمن هم الذين يمكن أن يتمثلوا مشاعرها ومواقفها، أفضل من أولئك الذين يعرفون موضعهم على البلاط!وهذا هو نفسه الدور الذي يلعبه حزب الله في لبنان. فهو يلعب لعبة المناوشات، ولكنه منضبط!
ولا تستطيع الولايات المتحدة، إذا شاء لها التمني، أن تتمنى أفضل من ميليشيات تحل وتستبدل، وتمارس الانضباط.بينما تبدو مزاعم الميليشيات ومناوشاتها مثيرة للصداع، فإن واشنطن وطهران تضبطان الإيقاع، من دون الحاجة إلى باراسيتامول
المنضبط الحقيقي هو إيران. أو قل إنها مايسترو الانضباط على جميع الجبهات. أولا، لتقول إنها هي الطرف الذي يجب الالتفات إليه في إدارة المساومات. وثانيا، لأن مشروعها الذي فاز بنفوذه في ظل الدبابات الأميركية، وانطلاقا من ركوبها في العراق، فاز بكل ما فاز به بفضل ما تم التوافق عليه من ضمانات وترتيبات. متنافسان، ولكن من دون أن يلغي أحدهما الآخر.
لم يكن لإيران أن تحقق نفوذا على العراق، لولا ركوب تلك الدبابات. وتاليا في سوريا، ومنها إلى لبنان واليمن. والولايات المتحدة التي وقفت على ضفاف الهزيمة في العراق، بعد أكثر من خمسة آلاف قتيل ونحو 50 ألف جريح في علميات المقاومة (قبل أن تظهر “الشريفة”)، ما كان لها أن تحافظ على وجودها في العراق، ولا أن تمده إلى سوريا، أو أن تصبح عاملا معطلا أو معرقلا في لبنان واليمن، لولا أنها اختارت الانضباط ردا على الانضباط!
قصارى القول، إن ما يبدو واقعا سرياليا، تلتبس فيه الأدوار والمشاهد، هو في حقيقة أمره، ترتيب يعرف الطرفان حدودهما فيه. فلا يطغى أحد على “حقوق” أحد.وبينما تبدو مزاعم الميليشيات ومناوشاتها مثيرة للصداع، فإن واشنطن وطهران تضبطان الإيقاع، من دون الحاجة إلى باراسيتامول.
فالإحلال والاستبدال، يؤدي دوره، على خير ما يرام. والمسرحية، حتى وإن بدت سخيفة، وحتى لو بدا ممثلوها تافهين للغاية، إلا أنها تحظى بمشاهدة معقولة، وتشغل مساحة في نشرات الأخبار. وتوحي بأن “المقاومة الشريفة” شريفة فعلا، بينما يكللها العار، حتى وهي تحاول أن تغطيه.ليس من المعقول، من وجهة نظر الشرق والغرب والشمال والجنوب، أن تأتي سلطة إلى غزة على ظهور الدبابات الإسرائيلية. ولكن كان من المعقول تماما، أن تركب ميليشيات طهران تلك الدبابات في الطريق إلى بغداد.السفيرة ألينا رومانوسكي، هل يسعها أن تقول للغلمان، وهي في بغداد، شيئا أفضل من “إحنا ولد الكريّة..”؟
