اخبار المغرب

الأكاديمي لحجمري يقارب فن التزام الصمت.. “بيداغوجيا الاحتراز من الكلام”

كتب دينوارت Dinouart كتابا عام 1771 أعيد نشره مرات عديدة؛ كان المؤلِّف معارضًا شرسًا لفلسفة التنوير، أما فائدة كتابه فلا تكمن في هذه المعارضة، وإنما في كيفية تفكيكه فن الصمت والإطراء عليه؛ يحمل هذا الكتاب الصغير عنوان: “فن الصمت في أمور الدين خاصة” وهو عنوان يتسم براهِنيّة مُدهشة.

ألسنا نقرأ هذه الأيام كثيرا من مقالات عن الدين تكتسحها فيما بعد تعليقات تحجب عنا كل فهم للنص الأساس، إن لم تكن تعتمه؟ هذا التضخم في الحديث عن الدين ينسحب أيضا على السياسة، والاقتصاد، والفن، والثقافة، الشيء الذي يدعو إلى القول إن هناك نوعا من لهف “أُكّال” (بتعبير المؤلف) باعث على الكلام والكتابة على حد سواء، والحال أن “أولى مقامات الحكمة تقتضي لزوم الصمت، فيما يستلزم المقام الثاني المعرفة بالتكلم قليلاً مع اعتدال في الخطاب، على أن يتم في المقام الثالث التمكن من الاسترسال في الكلام، دونما إكثار أو إرسال له على عواهن قد تلحق أذى، هكذا، يكون الصمت مكوّنا جوهريا من مفهوم البلاغة”.

هل كان دينوارت Dinouart، بهذا، يبتكر بيداغوجيا للصمت، ويدعو إلى “نهج التحفظ”، وتبني “فن الاحتراز من الكلام”؟ لا شك في ذلك، فقد كتب: “وحده من تعلم سلفا كيف يصمت، يكون قادرا على الكلام”. ذلك أن سلطة وقوة الكلمات بإمكانها إحداث خراب ودمار وفوضى.

تحضرني هنا، إذا ما أسعفني تذكر قراءاتي، إحدى قصائد فيكتور هوغو المعنونة بـ”الكلمة”، التي بفعل ترديدها في النص انشحنت بمدلولات تزايدت إلى أن أصبحت بمثابة جرح قاتل في نهاية القصيدة فتك بمن وجهت إليه. والظاهر أننا لا نقدّر قوة الكلم بما يوفيها حقها، وهو الأمر الذي يعلمه صاغةُ الكلام، الذين لم ينسوا مقالة إميل زولا “أنا أتهم” التي رجحت الرأي العام لصالح الكابتن دريفوس Dreyfus، بعدما أدانته المحكمة ظلما. لهذا السبب “وجب إخراس اللغة، وإنطاق الصمت بجعله كَلِيمَنَا”. لعلها مهمة صعبة للغاية في ظل غياب أخلاقيات الصمت في عصرنا، والتي تفتقدها الحوارات حول القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، حتى إن “مرضا غريبا” مصدره لغو الكتَبَة بدأ يستبدّ بالخائضين في الأحاديث والمتهالكين على القول؛ وثمة جملة معبرة نقرؤها في تحليل دينوارت Dinouart تقول: “لا يستحبُّ التكلم إلا عندما يفضل الكلام الصمت”.

ففي مجال الأدب، مثلا، هنالك رغبة في الاتصاف بصفة المؤلف والتعاطي للكتابة، “فالمقروء مرئي”، كما يؤكد دينوارت، والكاتب أو الشاعر نرجسيٌّ، يتغنى بنفسه، بعشق “الذات” لـ”أناها”. لقد حدث أن حضرت قراءة شعرية، كانت أبيات القصيد سَطحية ذات محتوى محبط، في حين كانت الشاعرة في غمرة غطرسة أدهشت الجمهور، مما يثير نوعا من النفور من صفة الكاتب أو الشاعر، ومن (مهنة السياسي أو المعلق أو الصحفي في الظروف الراهنة العصيبة)، التي يبقى على عاتق الأجيال القادمة مهمة الإبقاء على تلك الصفة لمن يستحقها.

فهل يجب علينا أن نبقى صامتين؟ طبعا، إذا تطلبت الظروف ذلك، لأن الصمت يصبح جوابا مُخرسا للذين يتحدثون كثيرا، ويكتبون بسرعة، وينسون حكمة بليغة تُعلّمنا أن أولئك الذين يتهوَّرون في كلامهم هم أيضا متهورون ومذنبون في أفعالهم.

إذا ما عدنا إلى التعليم، ولو كنت ما زلت مدرسًا وعليَّ أن أعطي درسًا لطلابي عن اللغة الأم، لناقشتُهم حول “زلة اللسان” لصموئيل بيكيت، وقد بدأ في لحظة معينة من حياته، وهو المتحدث أصلا باللغة الإنجليزية، الكتابة باللغة الفرنسية؛ وكان قد أجاب “شخصا سأله عن تحوله إلى الكتابة بلغة أجنبية، بأن لغته الأم هي الصمت”.

وإذا ما حاولنا فهم “زلة اللسان” لهذا الحائز على جائزة نوبل في الأدب، وجدنا أن قوة الكلمات بالنسبة إليه كامنة في ندرتها، وليس في وفرتها.

لم يعد المثل اللاتيني Scripta manent verba volant “الكتابات باقية بينما الكلمات فانية” ساريَ المفعول في عصرنا الراهن، لأن للكلمات قدرا من الديمومة والبقاء.

وكذلك الشأن بالنسبة للصمت.

*أمين سرّ أكاديمية المملكة المغربية

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *