اخبار الكويت

محمود المسعدي الأديب الذي خسرته جائزة نوبل بقلم سفير الجمهورية التونسية لدى البلاد الهاشمي عجيلي

الحديث عن المفكر التونسي محمود المسعدي، يمنح متعة للقارئ والدارس للإبحار في عوالم الفكر العميق والأدب الهادف، كما أنه ينطوي على مشقة في فهم بعض التأملات والصور الفنية وفك طلاسم لغة عربية بليغة مرتبة، ذات إيقاع خاص وروح مجددة، معانيها وألفاظها سلسة حينا، وعصية أحيانا.

تمحور أدب الاستاذ محمود المسعدي حول الإنسان ماهيته وفعله وطبيعة علاقاته أفقيا وعموديا، وهذا ما سنحرص على تبيان بعض من جوانبه ضمن مسار الحديث عن هذا المفكر التونسي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

ولد محمود المسعدي في 28 يناير 1911 بمدينة تازركة في الوطن القبلي بتونس، وتلقى مثل بقية أقرانه تعليمه في الكتاب ثم المدرسة فالمعهد الصادقي ومعهد «كارنو»، ونال في ختامها شهادة البكالوريا، ثم انتقل إلى جامعة «السربون» بفرنسا، لينال شهادة الإجازة في الآداب، تلاها تحصيله لرسالتي دكتوراه الأولى عن شعر أبي نواس والثانية تخص الإيقاع الشعري عند العرب.

عاد الأستاذ المسعدي إلى تونس محملا بفكر جديد وتجربة واسعة، تركت بصماتها على نوعية أدبه وطبيعة الرسالة التربوية والمشروع السياسي الذي أمن بهما وانخرط فيهما.

حرص الأستاذ محمود المسعدي خلال مزاولة عمله كمدرس للغة العربية والإنسانيات في المعاهد التونسية على أن يعتمد منهجية علمية حازمة في التدريس وفي تعليم تلاميذه قواعد النحو والصرف وشرح أبيات الشعر وأنماطها، وأن يثريها بدراسة القرآن الكريم والآداب وكذلك المزواجة بين الثقافات العربية ونظيرتها الغربية.

وكان الأستاذ المسعدي حريصا على الدفاع عن اللغة العربية ودورها في التعبير عن الهوية الإسلامية والتونسية والترويج لرسالتها الحضارية، واعيا بمخاطر الجمود والتكلس الفكري السائد لدى بعض الأوساط، ومتصديا لمخططات المستعمر الهادفة إلى تغييب اللغة العربية عن المناهج ومحاولة إحلال اللهجة الدارجة محلها.

ولم يخف طيلة مسيرته الأدبية مفاخرته بشعر المتنبي وفلسفة أبي العلاء المعري والتوحيدي وآراء الجاحظ وأبي الفرج الاصفهاني وأفكار ابن خلدون والغزالي وابن رشد ومحمد إقبال، بالتوازي مع انفتاحه على أفكار الفلاسفة الغربيين أمثال نيتشه وشكسبير وديكارت وأبسن وشوبنهاور وسارتر وغيرهم.

وسعى جاهدا إلى تكريس «مقاربته الإصلاحية» على أرض الواقع كمدرس، ووزير تربية وزير للشؤون الثقافية ورئيس لمجلس النواب، وكان في مقدمة من نشروا التعليم بين عموم الشعب وطوروا مناهج التربية والعلوم الحديثة في المدارس والمعاهد والجامعات التونسية، فضلا عن ترسيخ عناصر الهوية الوطنية في أصالتها ومواكبتها للحداثة والتطور.

وبالتوازي مع المسار التربوي، كانت للمسعدي إسهامات في النضال السياسي والنقابي، حيث انخرط في الحركة الوطنية وانضم إلى الاتحاد العام التونسي للشغل وتعرض للملاحقة والنفي من قبل المستعمر، وشارك في مفاوضات الحصول على الاستقلال الوطني، كما ساهم بفاعلية في تثبيت أركان الجمهورية التونسية في خياراتها التربوية وتوجهاتها الثقافية.

وإن أثبت الأستاذ المسعدي كفاءته كرجل تعليم ومناضل سياسي ومسؤول دولة، فإن إبداعه الأبرز تمثل في باكورة مؤلفاته الفكرية ومقالاته الأدبية والفلسفية التي أنتج أبرزها في الفترة ما بين سنة 1939 و1949 على غرار كتب «حدث أبو هريرة قال» و«السد» و«مولد النسيان» و«المسافر» و«تأصيل لكيان» و«من أيام عمران وتأملات أخرى» وغيرها من المقالات، التي تمت ترجمة أغلبها إلى لغات أجنبية ويتواصل حولها إلى حد اليوم نقاش أدبي وفلسفي كبير.

ويجمع الباحثون والنقاد على أن كل ما كتبه المسعدي وما قام به من أعمال جوهره الإنسان، باعتباره «الموفي للأمانة التي أوكلها له الله» فهو يتحرك ويحاول، يعمل ويجتهد، يبدع ويرتقي، رغم أنه محكوم في نهاية المطاف بالمحدودية والعجز، ككائن متناهي.

وجل الشخصيات في مؤلفات المسعدي تخوض تجربة الفعل الإنساني، من بطل كتاب حديث أبو هريرة الساعي للتغيير والمتأمل قولا «أنظر إلى السماء فأراها نورا والأرض فأراها ماء ونفسي فأراها شعاعا..النجوم أخوتي وزهر الأرض وسادتي والشمس طعامي..أنا طائر أو صخر أو سحاب في السماء.. لا أرى في أي بلد وقعت وليس من همي، فإذا صاحب الأحلام إذا ذهبت به قتل الدنيا وانقطع إلى الفوق…» إلى «غيلان» البطل الملحمي لكتاب «السد» الذي ظل يكابد المخاطر والمحاذير من أجل بناء السد على أرض بور قاحلة، قصد استحصال الزرع واستنبات الحياة.

يخاطب «غيلان» رفيقته «ميمونة» المداومة على تذكيره بقصوره عن التغيير بالقول «وإن من بين الساعات لساعة يا ميمونة لا ينقص فيها الخلق والوضع منك شيئا.. ساعة يتصور فيها الممكن بصورة الكائن الواقع دون أن يتقيد بقيد ولا يحد بحد..» وغيرها من المعاني كثير.

وانطلاقا من قول الرحمان في سورة الرعد (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) اعتبر المفكر محمود المسعدي أن دور الإنسان وجوهر وجوده، هو التغيير، من الضعف إلى القوة، من البؤس إلى النعمة، من الجهل إلى المعرفة، من القيد إلى الحرية، وكذلك كان يرى في الثقافة والتربية أداة لتفجير طاقات الإنسانية الخلاقة عن طريق التعليم.

أما الفلسفة فهي في نظره «كل ما يثير مشكلة من مشاكل الكيان أو المغامرة الإنسانية، وإذ كان يرى كل مفكر فيلسوف وكل شاعر فيلسوف، فإنه شدد على أن الفيلسوف» هو من بين المفكرين صاحب اختصاص في ميدان التحليل للمشاكل بطريقة عملية خاصة عبر طرح تحليل منطقي، مختلف عن الشاعر، الذي يثير مشاكل الوجود بطريقة الإيحاء..».

ويعرف الأستاذ محمود المسعدي الأدب بالقول بأنه «مأساة أو لا يكون، مأساة الإنسان يتردد بين الألوهية والحيوانية وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه «و جوهر هذه المأساة هو كشف مكامن الإرادة، شرحها وطرحها وتصويرها، مع الاعتراف في نفس الوقت بمحدوديتها وضعفها قياسا بالإرادة الإلهية، فالإنسان كائن تلازمه نزعتان، إنسانية تواقة وحيوانية تحكمها الغريزة، وهو مخلوق ذو إرادة عزيزة طموحة، لكنها عاجزة أمام القضاء والغيب، الحياة والموت، أمام النفس والخالق.

يقول الكاتب المصري الكبير طه حسين «إن الوجودية أسلمت على يد المسعدي كما انتصرت في فرنسا على يد الكاتب غاربريال مارسيل «ويذهب آخرون إلى التأكيد على أن» الوجودية الإسلامية «التي أرساها فكر محمود المسعدي، تعتمد على القرآن الكريم ونظريات المفكرين وأصحاب مذاهب الاعتزال والتصوف».

فالوجودية عند الأستاذ محمود المسعدي ليست فكرا ماديا صرفا أو فعلا عبثيا متكرر بل هي قيمة إنسانية تعلي من شأن الفرد دون أن تعزله عن بيئته، ويتبين ذلك بجلاء في اعتبار أن رفع سيزيف، للصخرة من سفح الجبل إلى قمته إلى ما لا نهاية، هو ضرب من ضروب العبث وصنف من أصناف العدمية، أما محاولة «غيلان» في بناء السد فهو يترجم، حركة وفعلا وإرادة للتغلب على المصاعب، حتى وإن عجز، فإنه تمرد وفاز بشرف المحاولة وبالتالي يمكن القول أن التمرد في الوجودية الإسلامية، هو تمرد الإنسان على واقعه وليس على الذات الإلهية، التي تظل موضع العشق وجوهر الانتماء.

وللتعبير عن أفكاره وتصوراته استعمل الأستاذ محمود المسعدي لغة خاصة به أبدع فيها وانفرد بها، لغة عربية تجمع بين أسلوب القصص القرآني والمناجاة الصوفية والشعر والبلاغة والخرافة، لغة فيها ما تيسر من الكلام السلس المتسق، تارة، والجارف الممعن في التحدي والجمع بين مهجور اللفظ وحديثه، أطوارا.

كما تميزت روايات الأديب المسعدي بالإيقاع المتوازن بين الجمل الفعلية والاسمية وباحتوائها على كثير من الجناس والاستعارة والنظم والسجع، مما جعلها أحيانا شاقة في التتبع والفهم، وفي هذا الإطار نستذكر قول الأديب طه حسين، حين سئل عن رأيه في رواية السد للمسعدي، فرد بأنه احتاج إلى قراءتها أكثر من مرة لكي يفهمها، قبل أن يحكم عليها بأنها «قصة فلسفية كأحق ما تكون الفلسفة، وقصة شعرية كأروع وأبرع ما يكون الشعر»، وهي شهادة «عظيمة» من عميد الأدباء العرب الذي كان تقييمه للأعمال الأدبية صعبا ودقيقا.
يعتقد المفكر محمود المسعدي أن للغة الأدبية نواميس ومعان ومفردات خاصة، تستوجب الإتقان والحبكة والإبداع في تركيبها وصياغتها وهي عنده تختلف عن لغة التخاطب اليومي التي تكون مهمتها الأساسية التبليغ أو التواصل، فالجملة الأدبية يجب أن ترسخ في الذهن مثل أبيات الشعر لا تقبل التعديل أو التصرف، وإلا فقدت معناها وموسيقاها وخلودها.

ينتمي محمود المسعدي إلى المدرسة التونسية العريقة التي أنجبت على مر تاريخها الطويل والحافل الكثير من المفكرين، وهو من جيل أدباء ومثقفي القرن العشرين أمثال، على سبيل الذكر لا الحصر: البشير صفر، محمد العربي الكبادي، أبو القاسم الشابي، محمد الحليوي، محمد البشروش، علي الدوعاجي، الطاهر الحداد، البشير خريف، محمود بورقيبة، محمد العروسي المطوي، مصطفى خريف، والحبيب بولعارس والشاذلي القليبي وهشام جعيط وغيرهم.

وحظي المسعدي بحب كبير في تونس وأولت دولة الاستقلال تقديرا خاصا له، كيف لا وقد تم إدراج رواياته «حدث أبو هريرة قال» و«السد» ضمن مناهج امتحانات الباكالوريا، إلى جانب كل من المتنبي والتوحيدي وتوفيق الحكيم، كما ساهم عديد الأدباء والنقاد التونسيون وفي طليعتهم الأستاذ محمود طرشونة في توثيق أدبه وفكره ضمن سلسلة «دراسات في أدب المسعدي» الذي صدر سنة 2014.
ومحصلة القول إن المسعدي نجح في أن يرتقي بالأدب التونسي والعربي إلى مراتب عليا على الصعيد العالمي والانساني، مستعملا براعته اللغوية وأفكاره التقدمية في استنهاض الهمم ومقاومة الاستعمار وتحفيز الشعب على الأخذ بناصية العلوم والحداثة، كما توفق بحكم مسؤولياته الرسمية في المساهمة في بلورة برنامج تربوي ثقافي متكامل لإعادة صياغة مقومات الهوية القومية بعد الاستقلال الوطني.
لقد أعرب كبار المفكرين والنقاد في الغرب والشرق عن إعجابهم بموهبة المسعدي وثراء زاده المعرفي والأدبي، وخير دليل على هذا الكلام هو شهادة الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، حين لخص مسيرة الأستاذ محمود المسعدي بالقول «هو الأديب الذي خسرته نوبل حين لم تمنحه جائزتها».

المصدر: جريدة الأنباء الكويتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *