اخبار المغرب

أحمد المراكشي “البهلواني”.. هذه قصة أول قبر لمسلم في بريطانيا الحديثة

كانت لحطة إزالة العليق الموجود على حافة القسم الإسلامي من مقبرة بريستون الفيكتورية في أوائل السبعينيات من القرن الماضي كاشفة عندما عثر متطوعون من مساجد المدينة على شاهد قبر قديم به نقوش متقابلة باللغتين العربية والإنجليزية.

حيّر اكتشاف القبر، الذي يعود تاريخه إلى سنة 1906، المسلمين المحليين كيف أصبح هذا المسلم دفين لانكشاير في مطلع القرن؟ من الواضح أن شاهد القبر منحوت بشكل مزخرف، وهو إسلامي في تصميمه مع نقوش باللغتين العربية والإنجليزية. يقول شاهد القبر بالعربية: “يا من مات وسيظل ذكره إلى الأبد”. “هنا بالتأكيد يستريح أحمد بن إبراهيم المراكشي، الذي غادرت روحه إلى خالقها يوم الأربعاء 28 ذي القعدة من سنة 1324هحرية”. (ذو القعدة هو الشهر القمري الإسلامي الحادي عشر و1324 هو العام الإسلامي). يقول النقش الإنجليزي أسفل الشاهد المكتوب باللغة العربية: “هنا نعيد رفات البقايا الفانية لأحمد بن إبراهيم من مراكش بالمغرب، الذي توفي يوم 24 يناير 1906، عن عمر يناهز 60 سنة”.

لقد أصبح القبر بالنسبة لمسلمي بريستون لغزا. لم يعرف أحد من هو أحمد، أو ما كان يفعله في بريستون وكيف دُفن في ما كان يعرف آنذاك ببلدة الطاحونة الصغيرة في شمال غرب إنجلترا، وهو لغز لفت انتباهي في سن مبكرة. عندما كنت صبيا صغيرا، أتذكر زيارة القبر مع والدي وأفراد أسرتي يوم العيد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. أتذكر أيضا المحادثات التي أثيرت حول أحمد وشاهد قبره وسبب دفنه بقدميه في اتجاه الغرب على عكس العرف الإسلامي؛ إلا أن شاهد القبر نُقل، في السنوات اللاحقة، إلى موقع جنوب شرق المقبرة بما يتماشى مع القبور الإسلامية المحيطة.

هل كان أحمد رجل أعمال أو مسافرا عابرا أو عالما مسلما تقيا يزور بريطانيا الإدواردية لينشر تعاليم التقوى، كما كانت عادة المسلمين الصالحين والمتصوفين في جميع أنحاء العالم الإسلامي لقرون عديدة؟ كانت هذه أسئلة ما زلت أتذكرها عندما كان والدي، أحد عشاق التاريخ، يطرحها. لم تكن لدى الجالية المسلمة في بريستون أية فكرة، ويعود أصل الجزء الأكبر من الجالية المسلمة في بريستون اليوم إلى شبه القارة الهندية، وتعود جذورهم جميعهم إلى سكان الكومنولث الذين بدؤوا الهجرة إلى بريستون في الخمسينيات من القرن الماضي في سياق تزايد موجة الهجرة نحو بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة نقص فرص العمل في الدول الأم. كانت الجالية جديدة على بريستون، وثبتت صعوبة العثور على إجابات.

ففي خضم البحث عن أدلة، زرت مكتب التوثيق ببولاين في لانكشاير؛ ولكن نظرا لضيق الوقت أو قلة الصبر، لم أجد أي شيء تقريبا، وعندما زرت قبر والدي سنة 2016 بعد أكثر من مائة وعشر سنوات من وفاة أحمد فكرت في البحث عن اسم أحمد في أرشيف الصحف البريطانية على الإنترنيت. في غضون دقائق، توصلت الشبكة إلى مئات المقالات الصحافية والمراجعات والإعلانات تقريبا من سنة 1895 إلى سنة 1919؛ إلا أن الشبكة، التي كانت تثبط الصورة التي ربما تخيلتها لأحمد بن إبراهيم، حلت اللغز في نهاية المطاف، إذ أظهرت نتائج البحث عددا كبيرا من المقالات والمراجعات والإعلانات حول “فرقة أحمد إبراهيم”، وهي فرقة من البهلوانيين المغاربة التي تصفها أحد الإعلانات بأنها “أعظم أعاجيب العصر”.

كانت المراجعات إيجابية للغاية. بعد عرض في مسرح تيفولي في غريمسبي في نونبر من سنة 1906، كتب المدير الإداري لصحيفة “العصر”، وهي صحيفة تجارية أسبوعية، “لقد أسعدت الشقلبات المذهلة لفرقة أحمد إبراهيم للأكروباتية المغربية جماهير تيفولي بشكل كبير. كانت ميزة الأداء هي السرعة التي تتعاقب بها الإنجازات الفذة، مفاخر أعضاء الفرقة، وهم خبراء بنفس المستوى في القفز السريع وبناء الأهرام”.

وبالطريقة نفسها، كتبت صحيفة “هال ديلي ميل” في إصدار لها في شتنبر من سنة 1903: “يبرز البرنامج المقدم في “الحمراء” هذا الأسبوع بشكل جيد من أجل التميز الشامل. تجب إزالة كل المناظر الطبيعية إلى أقصى حافة المسرح عندما تظهر فرقة أحمد إبراهيم من العرب البدو، وهم فرقة تتكون من عشرة أفراد، وسيستغرق الأمر الكثير من الوقت للتفوق عليهم كبناة للأهرام البشرية. إن تحركاتهم تكون سريعة مثل البرق، ولا تسمح بقبول الانزلاقات أو الحركات الخاطئة. يبين أحد الرجال القوة من خلال حمل ثمانية رجال يقدر وزنهم بنصف طن على كتفيه، ويظهر الآخرون كخبراء في اللعب والدوران البهلوانيين وهم يتقنون فرجة البنادق”.

يظهر الأرشيف أن الفرقة سافرت طولا وعرضا عبر الجزر البريطانية، من برايتون إلى إدنبرة، وحتى دبلن، وقد وصلت إلى أماكن مرموقة مثل مسرح القصر في لندن وأماكن محلية مثل حمراء بلاكبول التي كانت تعد الأرضية اللازمة للعروض. فبعد وفاته سنة 1906، استمرت الفرقة تحت قيادة ابن شقيق أحمد، ميلود بن الحاج إبراهيم، الذي نشر إشعارا بالوفاة في صحيفة العصر يوم 10 مارس 1906، “لقد حدثت أخطاء كثيرة مؤخرا (كان هناك من يستغل اسمه الفني والتجاري). لذلك، أغتنم هذه الفرصة لأخبر كل من يهمه الأمر أن الراحل عمي، علي أحمد، المعروف فنيا باسم أحمد إبراهيم، قد توفي في بريستون بإنجلترا يوم 24 يناير 1906، ودُفن وفقًا للطقوس المحمدية”.

بهذه الطريقة، أصبح من الواضح أن أحمد بن إبراهيم كان رئيس فرقة من البهلوانيين المغاربة الذين قاموا بجولة في الجزر البريطانية لمدة 25 سنة على الأقل في مطلع القرن العشرين، وهو بالتأكيد ليس رجل أعمال، أو مسافرا عابرا، وهو أمر تم تأكيده لاحقا من خلال شهادة وفاته التي تحدد مهنته كـ”أكروبات محترف”.

كانت النتيجة نوعا ما معاكسة لتوقع الذروة، إذ شعرت بأنني على الأقل حللت اللغز على مضض، فقمت بنشر النتائج التي توصلت إليها على تويتر. لم أندم على أي شيء، إلا أنني ندمت على شيء واحد فقط، إذ كنت أتمنى أن يكون والدي على قيد الحياة، ولو كان حيا لكنا سنعيد المحادثة القديمة حول هذا الأمر بشكل جيد مع ضحكة مكتومة. شاهدت الصورة الآسيوية، وهي صحيفة آسيوية محلية، التغريدة وأظهرت قبر أحمد في قصة أوسع عن قبور المسلمين المبكرة في لانكشاير. في ذلك الوقت، اتصلت بي جولي كنيفتون، كاتبة مقبرة بريستون وعشيقة التاريخ مثلي. فبعد قراءة المقال، عثرت جولي على تغريداتي وأرسلت إلي تفاصيل وجدتها في سجل المقبرة.

وفقًا للسجل، كان مثوى أحمد الأخير وقت دفنه هو آخر قبر في أبعد ركن من القسم المخصص للفقراء في الجزء غير المطابق لمراسيم الدفن بالمقبرة (رقم القبر 305). تم حفر قطعة من الأرض في اتجاه الشرق الغربي، وهذا على الأرجح يفسر سبب توجيه قدمي أحمد إلى الغرب. تظهر السجلات أيضا أن قطعة الدفن اشتراها الحداد تشارلز هاتشينسون الذي يقطن بمنزل رقم 72 بنورث رود في بريستون، يوم 25 يناير 1906. كان هذا بعد يوم واحد من وفاة أحمد، إذ أشارت شهادة وفاته بشكل مثير للاهتمام إلى أنه توفي في العنوان نفسه. هل يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ هل كان يقيم مع تشارلز وعائلته أو انتقل للعيش معهم بسبب اعتلال صحته؟

يُظهر سجل القبور أيضا أن زوجة تشارلز، ماري آن هاتشينسون، اشترت لاحقًا ثلاث قطع أخرى بالقرب من قبر أحمد يومي 25 و28 شتنبر من سنة 1910 (الأرقام 304 و309 و310). عندما توفي تشارلز يوم 11 يونيو 1914 عن عمر يناهز 59 سنة، دفن أمام أحمد، وعندما توفيت ماري آن عن عمر يناهز 54 سنة، بعد بضعة أشهر يوم 28 دجنبر، دُفنت بجانب تشارلز؛ لكن ظل القبر الرابع الذي تم شراؤه بجوار أحمد شاغرا.

يبقى الأكثر إثارة للاهتمام هو سجل المعمودية الذي يظهر أن تشارلز وماري آن قد قاما بتعميد ابنهما، آرثر، في كنيسة جميع القديسين الموجودة بشارع إليزابيث في بريستون، يوم 9 يناير 1895. في ذلك الوقت، كانت أسرة هاتشينسون تسكن في النورث روود (الطريق الشمالية) بمنزل تحت رقم 107، وكان تشارلز يزاول مهنته كحداد. هذا يخبرنا أن العائلة ربما كانت أنجليكانية سنة 1895.

وأنا أعيش تحت رحمة الحيرة بعد هذه المعلومات الإضافية، وجدت نفسي أتساءل عن علاقة أحمد بعائلة هاتشينسون، وجدت نفسي أتساءل عما إذا كانت هذه العلاقة علاقة بسيطة بين المالك والمستأجر، أما إذا كانت أسرة هوتشينسون من الأنجليكان، فلماذا يذهبون إلى هذا الحد ليتم دفنهم بالقرب من القبر الإسلامي الوحيد المرئي في القسم غير المطابق لمراسيم الدفن بمقبرة بريستون؟

ربما كان أفراد أسرة هوتشينسون من أوائل الذين اعتنقوا الإسلام في برينستون؟ نعلم أنه كانت هناك جالية مسلمة بيضاء صغيرة ببريطانيا تتمحور حول معهد ليفربول الإسلامي بقيادة “الشيخ” عبد الله وليام كويلوم، الذي اعتنق الإسلام سنة 1887 بعد زيارته لطنجة بالمغرب. هل يمكن أن تكون أسرة هوتشينسون وأحمد جزءا من هذا المجتمع بعد أن كان لكويلوم روابط مع بريستون؟ لقد تم تسجيل سكناه بالكرشين روود (الطريق المسيحية) سنة 1910، كما تم تسجيل زواجه أيضا في مكتب تسجيل بريستون في السنة نفسها.

لفتت تغريداتي حول أحمد أيضا انتباه يحيى بيرت، الأكاديمي في جامعة ليدز. فأثناء البحث في مسألة مختلفة، عثر يحيى على نعي أحمد الذي نُشر في طبعة 31 يناير 1906 من جريدة “الهلال”، وهي صحيفة أسبوعية كانت مخصصة لقضايا الإسلام في بريطانيا، وكان يرأس تحريرها الشيخ عبد الله كويلوم.

كتب كويلوم في نعيه لأحمد: “توفي أخي أحمد إبراهيم بمنزل يحمل رقم 74 بنورث روود في بريستون، صباح الخميس الماضي (فاتح ذي الحجة من سنة 1323). كان أخونا المتوفى يبلغ من العمر 74 سنة، وقد عاش حياة مليئة بالحيوية. كان من مواليد فاس بالمغرب؛ لكنه كان يسافر مع شركة من البهلوانيين العرب الأذكياء في مختلف دول أوروبا لسنوات عديدة. كان مسلما متحمسا ومخلصا، وكان يحضر بشكل دائم إلى المسجد في ليفربول قصد الصلاة. لم يكن لديه أطفال، لكنه ترك زوجته (معتنقة الإسلام) الني أقامت حدادا على وفاته. لقد تم إجراء مراسيم جنازة شقيقنا المتوفى على النحو الواجب وفقا للطريقة الإسلامية وطقوسها بعد ظهر يوم الجمعة الماضي في بريستون. وقد تولى أخونا السيد محمود، إمام مسجد ليفربول، مسؤولية تنزيل الإجراءات الخاصة بخدمة مراسيم الجنازة. وقد سافر الإمام المكلف، بموجب تعليمات الشيخ، خصيصا من ليفربول إلى بريستون، على مسافة 50 ميلا، ليقوم بالمهمة. ولسوء الحظ، لم يتمكن سعادة الشيخ عبد الله كويلوم من الحضور في لحظة الدفن؛ لأنه اضطر إلى الوفاء بالتزام سابق، لكنه بعث برسالة تعاطف أخوية إلى أرملة الأخ الراحل أحمد. ومع ذلك، كان الأخ عبد الكريم الحسين حاضرا بالمقبرة، بعد أن سافر من ميدلسبره إلى بريستون، على مسافة 150 ميلا، خصيصًا لإلقاء الكلمة التأبينية الأخيرة تعبيرا عن الاحترام للمتوفى. نطلب الله أن يرحم روح أخينا الراحل ليعيش في السلام الأبدي. أمين!”.

تتعارض تفاصيل التواريخ والعمر ورقم الباب التي قدمها كويلوم مع ما تم تسجيله على شاهد قبر أحمد وشهادة الوفاة. قد تكون هذه التفاصيل قد ضاعت من الشيخ عبد الله كويلوم في عجلته لنشر صحيفته الأسبوعية. ربما كان عمر أحمد 74 سنة، وكتب 60 سنة لأغراض العمل.

تم ترتيب الجنازة بسرعة وفقًا للتقاليد الإسلامية، ولعبت أسرة هوتشينسون دورا بارزا في إضفاء الطابع الرسمي على شراء قطعة القبر والوثائق المتعلقة بذلك. إن استدعاء إمام من ليفربول لإجراء مراسيم الجنازة في مثل هذا الإخطار القصير يضفي مصداقية على الرأي القائل بأن أفراد عائلة هاتشينسون كانوا مرتبطين بمعهد ليفربول الإسلامي وكانوا على الأرجح معتنقين للإسلام.

يقدم النعي أيضا تفاصيل مثيرة للاهتمام حول تدين أحمد وحول مكان ولادته، إذ يشير إلى أنه من مواليد “مدينة أولياء الله الصالحين” فاس، وهي مدينة تقع في قلب الطرق التجارية التي تربط المغرب بعمق الصحراء في إفريقيا، مدينة معروفة بالتقوى في جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما أنها معروفة بجامعة القرويين الشهيرة التي تأسست سنة 245 هجرية الموافق لـ859 ميلادية على يد فاطمة الفهرية. ربما يكون أحمد قد ذكر أنه من مراكش لأغراض فنية لكي يكون معروفا بشكل أفضل في أوروبا. يشير نعي كويلوم أيضا إلى أن أحمد كان متزوجا. هل يمكن أن يكون القبر الرابع الشاغر مخصصا لزوجته البريطانية التي لا نعرف اسمها؟ هذا غير مؤكد، ولكن هناك شيء واحد مؤكد. لم يكن أحد في جنازة أحمد، في ذلك اليوم البارد من شتاء يناير سنة 1906، ليحلم بأن المكان الذي دفن فيه أحمد، وهو حافة القسم غير المطابق لمراسيم الدفن بمقبرة بريستون، سيصبح يوما ما القلب النابض لما أصبح يعرف اليوم بالقسم الإسلامي المزدهر من مقبرة بريستون.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *