اخبار السودان

الحرب الأهلية في السودان.. وتحزيب المثقفين

 

الحرب الأهلية في السودان.. وتحزيب المثقفين

محمد جميل أحمد

قد لا يفهم المراقب الخارجي حقيقة الحرب الأهلية السودانية الجارية منذ عام بين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ” حميدتي” إذا ما عرف مثلاً أن الفريقين المتحاربين لم يكونا عدوين من قبل، بل كان الدعم السريع في الحقيقة ثمرة منحرفة لسلوك جيش دولة تمت أدلجته بعقيدة حزبية للإسلاميين ثلاثين عاماً، بعد انقلابهم على الحكومة الديمقراطية في الخرطوم العام 1989 إذ  تمت إحالات للمعاش المبكر بحق المئات من الضباط الوطنيين المؤهلين في ذلك الجيش خلال سنوات قليلة من انقلاب الإخوان المسلمين.

لقد كان الدعم السريع عند بداية تكوينه في ظل نظام البشير بمثابة مليشيا من المشاة تم انشاؤها من قبل قائد الجيش آنذاك (الرئيس المعزول عمر البشير) لمواجهة حركات المعارضة المسلحة في إقليم دارفور، بل كان قائد الجيش اليوم عبد الفتاح البرهان أحد مهندسي ترتيبات وخطط الحرب الأهلية في دارفور 2003  ضد الحركات المسلحة، أي خلال تلك الملابسات التي تم في إطارها تكوين الدعم السريع ضمن أطوار متعددة مر بها منذ العام 2003 وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية واستمرت 17 عاماً.

لقد كان ذلك التكوين الذي نشأت في ملابساته قوات الدعم السريع بدارفور خطة  سيئة وخطرة على مصير وهوية الجيش الحكومي، مستقبلاً (وهذا ما حدث اليوم عبر هذه الحرب)إذ  ظل ذلك الخطر يتعاظم من خلال موجة تكوين الميليشيات التي امتهنها نظام الإخوان المسلمين فلم يكن الدعم السريع المليشيا الوحيدة عن تكوينه، بل كانت هناك ميلشيات أخرى في جنوب السودان قبل انفصاله وميلشيات موازية للجيش مثل قوات  “الدفاع الشعبي”.

وفي الحقيقة إن مشروع الإسلام السياسي  كايدلوجيا انشقاقية كان لابد أن يفضي بالضرورة إلى انقسام  عمودي داخل المجتمع، وداخل مؤسسات الدولة، فيما كانت سياسات ” التمكين ” هي الذراع التي قام عبرها  الاسلاميون بتصفية جهاز الدولة العام من الكفاءات الفنية الوطنية في الخدمة المدنية والهيكل الحكومي فأحلوا  أهل الولاء والثقة محل أهل الكفاءة والخبرة.

وبعد ثلاثين عاماً من ذلك التخريب  أصبح في وسع كل متابع لمسار هذه الحرب إدراك طبيعتها  وأن ما يحدث اليوم من صراع مسلح بين الجيش و الدعم السريع، ليس خلافاً ايدلوجياً ولا صراعاً تاريخياً أو اثنياً بين مكونين في السودان، بل هو نتيجة حصرية لخطيئة تحزيب المؤسسة العسكرية بسياسات التمكين التي ظلت  تمارس فرزاً مؤذياً وضاراً أدى إلى انفصال جنوب السودان، في العام 2011

وفي ظل هذه السيرة المكشوفة لتاريخ العلاقة بين الجيش والدعم السريع، لن يتساءل مثقف سوداني بطبيعة الحال عن تاريخ تكوين الجيش السوداني فذلك من أركان عناصر الدولة الوطنية،  لكن بالنسبة لملابسات تكوين الدعم السريع فإن ذلك المثقف سيدرك على الفور من تلك الوقائع التي ذكرناها آنفاً ومن طبيعة وتاريخ العلاقة بين طرفي الحرب؛ أن التسييس الحزبي الذي ضرب المؤسسة العسكرية (الجيش) هو السبب في ارتكاب خطأ تكوين الدعم السريع كجيش موازٍ  وبالتالي لن يكون في وسع أي مثقف نزيه القدرة على الاحتجاج بتأييد أحد طرفي الحرب كالجيش مثلاً فيما هو يدلي بتلك الحجة القائلة؛ أن الجيش مؤسسة قومية لذا هو سيقف مع الجيش في هذه الحرب، مع أن كل من يدرك الطبيعة الايدلوجية التي تم بها تسييس الجيش على مدى 30 عاما، سيفسر السبب في إعراض الجيش وعدم تدخله للدفاع عن الثوار السودانيين في مذبحة فض اعتصام القيادة العامة (عندما اعتصم آلاف من الثوار لأكثر من شهرين بمبنى القيادة العامة للجيش) وهي مذبحة تمت داخل مبنى القيادة العامة للجيش بالخرطوم  وحوله وراح ضحيتها أكثر من 170 من الثوار والثائرات.

ثم كيف يمكن لمثقف أن يقف مع الحرب في ظل أرقام وتقارير مفزعة من الأمم المتحدة حول الحرب في السودان، إذ أدت هذه الحرب  بحسب تقارير الأمم المتحدة إلى أكبر حركة نزوح في التاريخ ولم يسبق لها مثيل في العالم أي نزوح 9 ملايين سوداني من ديارهم بسبب الحرب في أقل من عام، ولجوء 3 ملايين إلى دول الجوار.

وفي ظل أرقام وتقارير كهذه من الأمم المتحدة؛ كيف يمكن لمثقف أن يقف مع استمرار الحرب، وهو يدرك خلفياتها تلك؟ هل تمنحه تلك الخلفية منطقاً أخلاقياً للاصطفاف مع حرب كهذه الحرب؟

نقلاً عن صحيفة “عمان”

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *