اخبار المغرب

وزارة الثقافة وضرورة السينما

“من يعشق الحياة يذهب إلى السينما” جان لوك غودار.

وحده من سقط من الزمن سيشكك في فعالية اختراع اسمه السينما: خاتم الفنون. ميزة هذا الفن أنه ولد من رحم التقنية. خرجت السينما إلى العالم من صلب الآلة، لذلك فهي فن حداثي بالفطرة؛ وليست في حاجة لأن تجدد مفاهيمها وتصلح من أدواتها حتى تتلاءم وروح عصر الحداثة. ولدت في عصر التقنية التي هي محدد للوجود، ووضعت نصب أعينها هدفا غير مسبوق: أن تجعل الحركة فعلا مرئيا، والصوت وقعا مسموعا، والزمن فعلا ملموسا.

من غيرها من الفنون الأخرى يمتلك كل هاته المقدرات السحرية؟..

لم نعد ندرك متى تبدأ السينما أو أين ستقف؛ بعدما صرنا نحيا في يم من الشاشات بالمتعدد التي تضاعف حضورها في معيشنا؛ من الحاسوب إلى المحمول؛ ومن آلات التصوير الدقيقة إلى نظام تحديد المواقع… فهل تستطيع الثقافة بعد كل ذلك أن تنهض من رمادها من دون هذا التبادل الفني والتقني مع السينما؟ هل بإمكان فضاءات العروض الحية: (مسارح، مراكز ثقافية، رواقات فنية…) أو البنيات الثقافية: (مكتبات، معاهد، خزانات، متاحف…) أن تحقق الخدمة العمومية من دون هزة السينما؟

بعد العصر الرقمي أضحت كل الصناعات الإبداعية التقليدية تعيش اللاطمأنينة في جلبابها العتيق؛ فصار لزاما عليها طرح جلدها البالي لاكتساب آخر جديد، مستفيدة من نقلة الفن السابع الوسائطية التي من شأنها تخليص كل الفنون العتيقة من سلطة اليد لصالح بؤرة العين. فقد وجد المسرح نفسه مضطرا بفعل اكتساح الشاشات لأن يعيد النظر جذريا في مفهوم التمثيل والجسد الحي، بعدما أعلن الرقمي عن ميلاد الافتراض وموت الواقع. ولم يكن التشكيل كما عهدناه من خلال اللوحة والمنحوتة بأفضل حال؛ حيث أضحت معارض الصباغة والنحت والرسم فاقدة للصلاحية: الحركة والزمن؛ ما فسح المجال لبروز أشكال جديدة كالإنشاءات الفراغية “Installation” وفن الفيديو وفن الضوء وفن الصوت والفن “الديجيتالي”… عملت كلها على تحرير التشكيل من إطار اللوحة المحدود مكانيا وزمنيا؛ حتى أن التوصيف الشهير: الفنون الجميلة اختفى لصالح تسمية بديلة هي الفنون البصرية. وبدوره لم يسلم الأدب من حمى السينما القاتلة؛ فأعلنت القصيدة استنفاذ صلاحيتها؛ كما سحب السيناريو السينمائي من الرواية قدرتها على التحليل النفسي.

يرى ريجيس دوبري أن قاعات السينما التي يتناقص عددها اليوم إلى درجة الاختفاء لصالح بروز سينمات متنقلة تستوطن ملاذات جديدة كالمنصات الرقمية والشاشات بالمتعدد، لا تعلن عن موت فن السينما كما قد يذهب بنا الاعتقاد؛ وإنما تؤشر على ميلاد جديد للفن السابع في عصر رقمي أحدث انقلابات عميقة في طبيعة الصورة والصوت والنص؛ فعزز من حضور السينما كرمزية كونية. لذلك لا يتورع دوبري في التأكيد على أننا مازلنا ولوقت طويل قادم سنستمتع بأروع الأعمال الفنية من خلال السينما بالأساس.

لذلك، وإذا كان تاريخ الثقافة ببلادنا يذكر الوزير محمد بن عيسى كمهندس لعمل المندوبيات الإقليمية للثقافة التي أسهمت في نقل الثقافة إلى مرتبة التنشيط؛ مثلما يقر للوزير محمد الأشعري ابتكاره لفكرة دعم مشاريع الإنتاج الفني قصد تعزيز حضور هذا التنشيط الفني بالبنيات الثقافية؛ فإن هذا التاريخ نفسه هو من سيذكر السيد محمد بنسعيد باعتباره وزير الثقافة الذي استلهم روح التوجيهات الملكية السامية الداعية لخلق صناعة سينمائية وطنية تسهم في نقل الصورة الجميلة للمغرب، حيث وجدت هذه التوجيهات السامية تفعيلها الخالص ولأول مرة عبر برامج وزارة الثقافة المغربية التي ظلت في ما مضى بمعزل عن نهضة الفن السابع، من خلال مشروع إحداث وتهيئة مائة وخمسين قاعة للعرض السينمائي.

فلأول مرة، يتم تجهيز المراكز الثقافية بالمغرب والبنيات التابعة لوزارة الثقافة بما في ذلك المكتبات الوسائطية والرواقات الفنية، بأحدث تقنيات العرض السينمائي؛ قصد تأهيلها لاحتضان برمجة سينمائية منتظمة لدعم وترويج الفيلم المغربي؛ بحيث ستعمل هذه البنيات الموزعة على طول جهات وأقاليم المملكة على أداء الخدمة العمومية بإيصال نفس الإبداع السينمائي الوطني للمواطنين المغاربة في وقت واحد؛ وهذا مهم جدا؛ لأنه لا يمكن فهم السينما في جوهرها الأصيل إلا بوصفها مقولة للوجود.

قيمة هذا المشروع أنه يعي بأن السينما هي العنصر الأسمى المحدد لثقافة هذا العصر، وأداة من أدوات إسهامنا في الصرح الإنساني المعاصر. مشروع يعي بأن الصناعة السينمائية مسألة وجود قومي لا مجرد تنشيط ثقافي وفني عابر؛ وكلما فرض الفن السابع نفسه في المجتمع وترسخ فيه؛ إلا وتحقق الإصلاح والتحديث في أقرب وقت ممكن.

قيمة هذا المشروع الطموح تكمن أيضا في أن التجهيزات الحديثة التي زودت بها هذه البنيات ستعمل بلا شك على الارتقاء بالتشكيل والمسرح والأدب؛ حتى يصيروا في كامل مشروعيتهم. لقد عبر السيد وزير الثقافة عن ذلك بشكل ضمني في معرض كلمته الافتتاحية الخاصة بالدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان في دجنبر الماضي؛ حينما صرح بشجاعة منقطعة النظير بأن المسرح في شكله التناظري الحالي لم يعد يشكل عامل جذب للشباب على غرار سبعينات القرن المنصرم؛ وهذا واقع ينبغي الإقرار به، وسبق أن تعرضنا له في مقالات سابقة على منبر هسبريس. لذلك؛ فإن عودة السينما اليوم إلى مأواها الطبيعي ألا وهو وزارة الثقافة؛ لهو خير سبيل لتأهيل كل الصناعات الإبداعية الأخرى، وبث روح الحياة المعاصرة فيها؛ بنقلها من الصورة إلى البصري؛ ومن التناظري إلى الرقمي، ما سيعمل بعبارة أوجز على نقل الفنون المغربية برمتها من زمن الفرجة إلى ما بعدها.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *